الاستنارة في أحكام الطهارة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الاستنارة في أحكام الطهارة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.
وبعد، فإن معرفة أحكام الطهارة من وضوء وغسل وإزالة النجاسة وتطبيقها على الوجه الصحيح من أعظم مهمات أمور الدين، وذلك لأنه يترتب على الإِخلال بها وعدم صحتها عدم صحة الصلاة التي عظم الله تبارك وتعالى أمرها. فهي أي الطهارة مفتاح الصلاة فمن أهمل طهارته أهمل صلاته.
انطلاقًا من هذا فإننا نضع بين أيديكم ما يحتاجه المسلم لأداء طهارته على مذهب الإِمام الشافعي رضي الله عنه، راجين من الله أن ينفع به وحسن الختام وجزيل الثواب.
أقسام المياه
المياه أقسام: منها ما يصح التطهّر به ومنها ما لا يصح، وهي:
ماء طاهر مطهِّر: أي طاهر بنفسه مطهِّر لغيره أي يرفع الحدث ويزيل النجس وهو الماء المطلق أي الذي يصحُّ إطلاق اسم الماء عليه بلا قيد كماء السماء، وماء البحر، وماء النهر، وماء العين، وماء الثلج، وماء البَرَد، وأمّا الماءُ المقيّد فهو كماء الورد وماء الزهر فإنه لا يصلح للتطهير.
وماء طاهر غير مطهِّر: أي طاهر بنفسه غير مطهِّر لغيره أي لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس وهو:
الماء المستعمل: وهو الذي استعمل في ما لا بُدّ منه في الوضوء والغُسل أو استعمل في إزالة نجس إذا طهر المحل ولم يتغيّر؛ فإن لم يطهر المحل أو تغيّر بالنجاسة فهو نجس.
والماء المتغير بما خالطه من الطاهرات: فإذا خالط الماءَ طاهرٌ يمكن صون الماء عنه بلا مشقّة وغيّر الماءَ تغييرًا كثيرًا فهذا الماء لا يصلح لا للوضوء ولا للغُسل ولا لإزالة النجاسة، كأن وقع في الماء حليب أو سكر فغيّر لونه أو طعمه أو ريحه تغيرًا كثيرًا؛ أمّا ما يقعُ في الماء ولا يغيّره تغييرًا كثيرًا فلا يؤثر لبقاء اسم الماء عليه بلا قيد. ويستثنى من ذلك الملح البحري فلا يؤثر في صلاحية الماء للتطهير وإن غيّر الماء تغييرًا كثيرًا بخلاف الملح الجبلي فإنه يؤثر.
وماء نجس: اعلم أن الفقهاء الشافعيين قالوا: الماء قسمان: ماء قليل وماء كثير. فالماء القليل عندهم: هو ما كان دون القلّتين، والماء الكثير: هو ما كان قلّتين فأكثر، ومقدار القلّتين: هو ما يملأ حفرة مدورة قطرها ذراع وعمقها ذراعان ونصف، أو ما يملأ حفرة مربعة عمقها ذراع وربع وكذلك عرضها وطولها، والمراد بالذراع الذراع اليدوي.
فإذا وقع في الماء القليل نجاسة غير معفو عنها فإنها تنجسه سواء تغير الماء أو لم يتغير، ومن النجاسة المعفو عنها ميتة ما ليس له دم يسيل كالذباب والبرغوث ونحوهما، فإذا وقع في الماء ومات فيه فإنه لا ينجسه.
وأمّا الماء الكثير فلا يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة إلا أن يتغير أحد أوصافه الثلاثة: طعمه أو لونه أو ريحه ولو تغيرًا خفيفًا، هذا في مذهب الشافعيّ. أمّا في مذهب المالكية فالماء لا ينجسه شىء إن كان قليلًا أو كثيرًا إلا النجاسة التي تغيّرُهُ، وفي ذلك فسحةٌ للناس.
فصل في النجاسات
الدم نجس، وكذلك القيح، وماء الجرح المتغير، والقىء، والخمر، والبول، والغائط، والمذي وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند ثوران الشهوة، والودي وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقب البول أو عند حمل شىء ثقيل، والكلب والخنزير، والميتة وعظمها وشعرها سوى ميتة السمك والجراد والآدميّ.
والمنفصل من الحيّ حكمه حكم ميتته، ويستثنى شعر المأكول وصوفه وريشه وريقه وعرقه، وكذلك ريق وعرق الحيوان غير المأكول إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما. فشعر الهرّة المنفصل عنها نجس، وصوف الضأن المنفصل عنه وهو حي طاهر، وأما إذا انفصلت عنه يده وهو حيّ فهي نجسة.
والحيوان كله طاهر إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما.
والنجاسة إما حكمية وإما عينية:
أما النجاسة الحكمية فهي التي زالت عينها وأوصافها فيطهر المحل بجري الماء عليه.
وأمّا النجاسة العينية فإن كانت بول طفل عمره أقل من حولين لم يأكل سوى حليب أمه فيطهر المحل برش الماء على المكان الذي أصابته النجاسة حتى يعمّ المحل ويغمره وإن لم يسل لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “يُغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام” رواه أبو داود. وأمّا البنت فبولها كبول الكبير وإن صغرت. وإن كانت بول ءادمي غير الطفل الذكر فيطهر المحل بإزالة عينها وطعمها ولونها وريحها بالماء المطهر. ويسنُّ التثليث في إزالة النجاسة، وإذا عسر زوال اللون وحده أو الريح وحده عفي عنه.
وإن كانت النجاسة كبول أو روث أو ريق كلبٍ أو خنزير فيطهر المحل بغسله سبع مرات إحداهن ممزوجة بتراب طهور أو موضوع عليها التراب الطهور هذا عند إزالة جرمها وذلك بأن يوضع في إحدى الغسلات السبع تراب يكدّر الماء تكديرًا أو يوضع التراب على موضع النجاسة بعد إزالة جرمها ثم يصب الماء فوقه وذلك بعد إزالة عين النجاسة فما لم تزل عين النجاسة لا يعتبر التعدد فالمزيلة للعين غسلة واحدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرّات إحداهن بالتراب” رواه مسلم.
ولا يطهر من نجس العين شىء إلا الخمرة إذا تخللت بنفسها، فإن خللت بطرح شىء فيها كالخبز فلا تطهر، وجلد الميتة إذا دبغ. وأما شعر الميتة فلا يطهر.
فصل في الاستنجاء
يجب الاستنجاء من كل رطب خارج من السبيلين إلا المني، سواء كان معتادًا كالبول والغائط، أو غير معتاد كالمذي والودي، فلو خرج الغائط يابسًا فلم يلوّث المخرج فلا يجب الاستنجاء منه. وأمّا البول فالتحرز منه أمره مهم وذلك لأن التلوث به أكثر ما يكون سببًا لعذاب القبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استنزوا من البول فإن عامّة عذاب القبر منه” رواه الترمذيّ.
والاستنزاه من البول هو تجنّب التلوث به، والتلوث بالبول من الكبائر.
ويسنّ الاستبراء وهو إخراج بقية البول بعد انقطاعه بحيث لا يخشى نزوله بتنحنح ونحوه.
والاستنجاء يكون بالماء الطَّهور، أي الطاهر المطهِّر، أو بالأحجار إما بثلاثة أحجار وإما بحجر واحد له ثلاثة أطراف، وفي حكم الحجر كل قالع طاهر جامد غير محترم كمنديلٍ من ورق مثلًا، والقالع هو الذي يقلع النجاسة فلا يصلح الزجاج، والمحترم كأوراق العلوم الشرعية والخبز فلا يجوز الاستنجاء به. ولا بدّ أن يمسح ثلاث مسحات فأكثر إلى أن ينقى المحل، فإن لم ينق بثلاث زاد رابعةً فإن أنقى بها زاد خامسةً ندبًا ليكون العدد وترًا.
والأفضل في الاستنجاء أن يستنجي بالأحجار أوَّلا ثم يتبعها بالماء، ويجوز أن يقتصر على الماء أو على الأحجار ولكن الماء أفضل. وما يفعله بعض الناس من أنّهم يضعون الماء في كفّ يدهم ثم يدلكون بها محل خروج النجاسة فهذا قبيح لا يصلح للاستنجاء.
ومن أراد الاستنجاء من الغائط بالماء يسكب الماء مع وضع اليد على مخرج الغائط ويدلك حتى يذهب الخارج عينه وأثره.
ويحرم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو بغائط إلا إذا كان أمامه شىء مرتفع ثلثي ذراع فأكثر ولا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع، وهذا في البرِّية، أما في المكان المعدّ لقضاء الحاجة فليس حرامًا استقبال القبلة واستدبارها عند البول والغائط.
ويكره البول والغائط تحت الشجرة المثمرة ولو في غير وقت الثمر لئلا تقع الثمار على النجاسة فتتنجس فتعافها الأنفس، أمّا إن كانت لغيره فحرام إلا بإذن صاحبها.
ويكره البول في الطريق والظل لأنه يسبب اللعنة لفاعله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتّقوا اللعانَين”، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله، قال: “الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم” رواه مسلم. ومواضع الشمس في الشتاء كمواضع الظل في الصيف.
ويتجنب البول والغائط في الثقب وهو الشق المستدير النازل في الأرض إن كان صغيرًا أو كبيرًا لأنه قد يكون مأوى الهوامّ أو مأوى الجن.
ولا يتكلم عند خروج البول والغائط فإنّ ذلك مكروه.
ويحرم البول في المسجد ولو في إناء.
ولا يدخل معه إلى بيت الخلاء ما كتب فيه ذكر الله أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويسنّ للداخل أن يستعيذ بالله فيقول: “بسم الله اللهمّ إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث”، أي من ذكور الشياطين وإناثهم.
ويُسنّ أن يدخل برجله اليُسرى ويخرج برجله اليمنى بعكس المسجد، ويقول بعد خروجه: “غفرانك، الحمدُ لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني”.
فصل في الوضوء
ليعلم أن للوضوء أركانًا وسننًا سنذكرها ثم نذكر كيفيّة الوضوء جامعين بين الأركان والسنن إن شاء الله تعالى.
أمّا أركان الوضوء فستّة:
الأول: النية وتكون بالقلب عند غسل الوجه فينوي رفع الحدث الأصغر، أو التطهر للصلاة أو نحو ذلك، ولا تكفي النية قبل غسل الوجه إذا لم ينوِ عنده، ويكفي عند الإمام مالك أن تتقدّم على غسل الوجه بقليل، على أن مسح الرأس كله ركن على قولٍ عنده وكذلك الدلك والموالاة.
الثاني: غسل الوجه جميعه بشرًا وشعرًا، وحد الوجه ما بين شعر الرأس عادة وعظم الذقن طولا وما بين الأذنين عرضًا. فيدخل فيه جميع الشعر الذي في حدّ الوجه ومن ذلك الغمم والعذار والهدب والحاجب والشارب إلا باطن لحية الرجل الكثّة.
الثالث: غسل اليدين من رءوس الأصابع إلى المرفقين، ويجب إدخال المرفقين في الغسل.
الرابع: مسح بعض الرأس بشرًا أو شعرًا بشرط أن يكون البعض الممسوح من الشعر لا يخرج إذا مدّ إلى جهة نزوله عن حدّ الرأس.
الخامس: غسل الرجلين إلى الكعبين، ويجب غسل الكعبين.
السادس: ترتيب الأركان على ما ذكرنا.
وأمّا سننه فهي كثيرة منها:
التسمية، وغسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، والاستياك، والمضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، والغُرَّةُ، والتحجيل، ومسح جميع الرأس، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، وتخليل اللحية الكثّة، وتقديم اليمنى على اليسرى، والطهارة ثلاثًا ثلاثًا، والدلك، والموالاة، وتقليل الماء، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يتوضأ بمد ويغتسل بصاع من الماء، والصاع أربعة أمداد، والمدّ ملء الكفين المعتدلتين.
فمن توضأ مقتصرًا على الأركان ولم يأت بالسنن صح وضوؤه، لكن يكون فوّت على نفسه خيرًا.
ويستحب استدامة النيّة من أول الوضوء إلى ءاخره والأحسن في المضمضة والاستنشاق أن يجمع بينهما بثلاث غرفات ويبالغ فيهما إلا أن يكون صائمًا، وفي مسح الرأس أن يضع إبهاميه على صدغيه ويلصق سبابتيه ببعضهما عند مقدم الرأس ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه ويفعل ذلك ثلاثًا، وفي مسح الأذنين أن يمسح ظاهرهما وباطنهما بماء جديد ثلاثًا فيضع سبابتيه في صماخيه ثم يديرهما على المعاطف ثم يمسح بإبهاميه ظاهرهما ويلصق يديه مبلولتين بهما، ويقول إذا فرغ من الوضوء: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك”.
ومعنى الغرَّة أن يزيد في غسل الوجه على القدر الواجب من جميع جوانبه، ومعنى التحجيل أن يزيد في غسل اليدين إلى المنكبين وفي الرجلين إلى الركبتين، ومعنى الموالاة أن يغسل العضو قبل أن يجف العضو الذي قبله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من توضأ كما أُمِر وصلَّى كما أُمِر غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه” رواه ابن حبان.
فصل في نواقض الوضوء
وينقض الوضوء:
ما خرج من السبيلين: أي القُبُل أو الدُّبر، سواء كان معتادًا كالبول والغائط والريح، أو غير معتاد كالحصى والدود والمذي والودي، إلا المني فإنه لا ينتقض الوضوء بخروجه دون مباشرة امرأة لكن يوجب الغسل.
ولمس الرجل الأنثى الأجنبية التي تشتهى بلا حائل: فإذا لمس رجل أنثى أجنبية تشتهى بالنسبة لأهل الطباع السليمة انتقض وضوؤه. والأجنبية هي غير المحرم، والمحرم من حرم نكاحها على التأبيد إما بنسب كالأم أو الأخت، أو بالمصاهرة كأم الزوجة، أو بالرّضاع كالأخت من الرضاع. ومس الأجنبية سوى الزوجة حرام. ولا فرق في المرأة بين الشابة والعجوز التي لا تشتهى، أمّا الصغيرة التي لا تشتهى بالنسبة لأهل الطباع السليمة فلا ينقض لمسها الوضوء. والناقض لمس بشرة الأجنبية فلا ينقض لمس السنّ أو الظفر أو الشعر وإن كان ذلك حرامًا، وكذلك لا ينقض الوضوء لمسها بحائل.
وزوال العقل لا بنوم قاعد ممكن مقعدته: فمن زال عقله بجنون أو صرع أو سكر أو نوم انتقض وضوؤه، إلا من كان نائمًا ممكنًا مقعدته أي مع إلزاق المقعدة بالأرض بحيث لا يبقى تجاف بينه وبين الأرض، أمّا النعاس فلا ينقض الوضوء، وهو حالة يسمع فيها الشخص كلام من حوله لكن لا يفهمه.
ومسّ قُبُل الآدمي أو حلقة دُبُره ببطن الكفّ بلا حائل: سواء كان من كبير أو صغير ذكرًا كان أو غيره، من نفسه أو غيره، قال صلى الله عليه وسلم: “من مسّ ذكره فليتوضأ” رواه الترمذي والبيهقي.
ولا ينقض مس الأَلية، ولا مسّ دبر أو قبل غير الآدمي.
والناقض هو اللمس بباطن الكف بلا حائل فلا ينقض اللمس بظاهر الكف أو بحائل، وباطن الكف هو ما يلتقي عند وضع إحدى الكفين على الأخرى مع شىء من التحامل ومع التفريق بين الأصابع.
فائدة: لا ينقض الوضوء خروج ريح من القبل.
ويحرم بانتقاض الوضوء الصلاة والطواف بالكعبة ومس المصحف وحمله.
فصل في الغسل
الغُسل شرعًا سيلان الماء على جميع البدن بنية مخصوصة.
والذي يوجبه خمسة أشياء: وهذه الأشياء إنما توجب الغسل مع إرادة القيام إلى الصلاة ونحوها، أمّا مجرد حصول أحدها فلا يوجب الغسل على الفورية، فلو أجنب الشخص بعد طلوع الشمس فلا يجب عليه أن يغتسل فورًا بل له قبل أن يغتسل أن يذهب لقضاء حاجاته ثم يرجع وقد بقي من الوقت ما يسع الطهارة والصلاة فيغتسل ويصلي الفرض، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي سلمة أنه قال: سألتُ عائشة أكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرقد (أي ينام) وهو جنب؟ قالت: “نعم ويتوضأ”.
وأمّا ما شاع عند بعض العوام من أن الجنب إذا خرج قبل أن يغتسل تلعنه كل شعرة من جسمه فهو كذب وهو خلاف الدين.
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت فأتيت الرَّحْلَ (أي المأوى الذي يأوي إليه أبو هريرة) فاغتسلت ثم جئت (أي رجع إلى الرسول) وهو قاعد فقال: “أين كنت يا أبا هرّ” فقلت له (أي أنه كان جنبًا فتركه لذلك) فقال: “سبحان الله يا أبا هر إنّ المؤمنَ لا ينجس”، فتبين من ذلك فساد كلامهم.
الأول: خروج المني وله علامات يعرف بها، منها:
اللذة بخروجه.
وريح العجين إن كان رطبًا.
وريح بياض البيض إن كان جافًّا.
والتدفّق أي خروجه بدفعات شيئًا فشيئًا بقوة.
والثاني: الجماع ولو لم ينزل المني، وهو إيلاج الحشفة أو قدرها من فاقدها في فرج.
والثالث: الحيض وهو دم يخرج من فرج المرأة على سبيل الصحّة من غير سبب الولادة.
والرابع: النفاس وهو الدم الخارج بعد فراغ رحم المرأة من الحمل.
والخامس: الولادة لأن الولد أصله مني منعقد.
وفرائض الغسل اثنان:
الأول: النية، وذلك لأنّ النيّة تُميّز العادات من العبادات، ومحلّها القلب، وتكون عند إصابة الماء لأول جزء مغسول من البدن، فينوي المغتسل رفع الحدث الأكبر أو ينوي فرض الغسل أو ينوي الغسل الواجب أو ما يقوم مقام ذلك كاستباحة الصلاة أو الطواف، فلو نوى بعد غسل جزء من جسمه وجب إعادة غسل ذلك الجزء.
تنبيه: لا يجوز لمن تيقن أنه ليس محدثًا حدثًا أكبر أن يغتسل بنية رفع الحدث الأكبر.
والثاني: تعميم جميع البدن أي ظاهره بشرًا وشعرًا بالماء المطهِّر.
ومن سننه:
التسمية: وهي قول بسم الله ومحلها أول الغسل ويكره تركها.
والوضوء الكامل قبل الغسل، ولو ترك لم يُكره.
والدلك: أي إمرار اليد على الجسد.
والموالاة: وهي أن يغسل العضو قبل جفاف الذي قبله.
وتقديم اليمنى على اليسرى:
فيغسل رأسه بعد أن يخلّل شعره ثلاثًا بيده المبلولة، ثم يغسل شقّه الأيمن ما أقبل منه ثم ما أدبر، ثم يغسل شقه الأيسر ما أقبل منه ثم ما أدبر، ويسنّ أن يكون كل ذلك ثلاثًا.
ويسن التقليل من الماء ويكره الإسراف، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بصاع وهو أربعة أمداد، واغتسل بخمسة مكاكيك، والمكوك ستة أمداد، فعن أنس رضي الله عنه أنّه صلى الله عليه وسلم توضأ بمكوك واغتسل بخمسة مكاكيك، رواه مسلم.
قال بعض الفقهاء: من اغتسل عاريًا سنّ له أن يقول عند نزع ثيابه: “بسم الله الذي لا إله إلا هو”، لأنه ستْر عن أعين الجنّ.
فصل في التيمّم
التيمم شرعًا إيصال التراب إلى الوجه واليدين بنية مخصوصة وبشرائط مخصوصة، وهو خاص بأمّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يشرع لغيرها، قال تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [43] ﴾ [سورة النساء].
والتيمم يكون في حال مباحًا أي جائزًا لا واجبًا، وفي حال واجبًا. فيكون مباحًا إذا فقد الماء ولم يجده إلا وهو يُباع بأكثر من ثمن المثل فله أن يشتريه وله أن لا يشتريه ويتيمم.
وأمّا الحال التي يكون فيها التيمم واجبًا فهي كأن يكون الماء يضره أو يفقد الماء. والضرر الذي يبيح التيمم هو أن يخاف على نفسه من استعمال الماء أو على عضوٍ من أعضائه التلف أو الضرر أو مرضه.
وفقد الماء إما أن يكون فقدًا معنويًّا أو حسيًّا.
أمّا الفقد المعنوي فهو كأن يحول بينه وبين الماء الذي هو بالقرب منه سبع أو عدو، أو أن يحتاج إلى الماء لشربه ولا يجد غيره فيصح له التيمم مع وجود الماء.
وأمّا الفقد الحسي فهو أن لا يجد الماء في القدر الذي يجب الطلب فيه من المساحة، وذلك كأن يكون الماء في مسافة تبعد عن المكان الذي هو فيه فوق حد القرب، وحد القرب قُدّر بنحو نصف فرسخ وهو مسافة 1400م تقريبًا، فلا يجب عليه طلبه؛ ثم إن تيقن عدم وجود الماء تيمم بدون طلب لأن الطلب والحالة هذه عبث، أما إن كان لم يتيقن عدم وجود الماء بل جوّز وجود الماء فيسأل في رحله ورُفقته إن كان مسافرًا كأن يقول: “من معه ماء يجود به ولو بالثمن”، فإن لم يجد ينظر حوله يمينًا وشمالا وأمامه وخلفه إن كان بأرض مستوية وإلا تردد إلى حدّ يلحقه فيه غوث رفقته لو استغاث بهم، فإذا لم يجد تيمم، وقدرت مسافة حدّ الغوث بثلاثمائة ذراع شرعي.
ومن شروط التيمم:
• أن يكون بعد دخول وقت الصلاة.
• وأن يكون بتراب خالص طهور له غبار. فلا يصح التيمم بتراب نجس كالتراب الذي أصابه بول، ولا بالمستعمل وهو التراب الذي انفصَل عن عضو التيمم بعد استعماله للتيمم.
• وأن يكون له غبار، وهذا الحكم عند الشافعي، أمّا عند الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيصح التيمم بالحجر أيضًا لأن الصعيد عندهم في قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [43] ﴾ [سورة النساء]: هو وجه الأرض.
وفرائض التيمم:
– النقل: أي نقل التراب إلى العضو الممسوح.
– والنية: كنية استباحة فرض الصلاة أو استباحة الطواف أو مس المصحف، ويجب أن تكون النية مقترنة بنقلِ التراب إلى العضو الممسوح وأن تستدام إلى أن يمسح جزءًا من الوجه.
– ومسح الوجه: ولو كانت له لحية يمسح ظاهرها.
– ومسح اليدين مع المرفقين: أمّا في مذهب مالك فيكفي مسح الكفّين على قول وهو مشهور المذهب الراجح.
– والترتيب: فلو قدّم مسح اليدين على الوجه لم يصح تيممه.
ومن سنن التيمم:
• التسمية.
• وتفريج الأصابع أول كل ضربة لأنه أبلغ في إثارة الغبار فلا يحتاج إلى الزيادة على الضربتين.
• وتقديم اليمنى على اليسرى.
• والموالاة بين المسحتين بتقدير المسح غسلًا.
• والموالاة بين التيمم والصلاة وهو واجب في تيمم دائم الحدث كما في وضوئه.
ويسن نزع الخاتم للضربة الأولى وهو واجب للثانية كي يصل التراب إلى محله.
والذي يبطل التيمم:
• ما أبطل الوضوء.
• ورؤية الماء في غير وقت الصلاة: أما لو رأى الماء وهو في الصلاة فإن كان تيمم لفقد الماء في مكان يكثر فيه وجود الماء بطل تيممه، وإلا فلا، ولكن الأحسن في الحال الأخيرة أن يتوضأ الشخص ويصلي بالوضوء.
• والردّة: وهي مبطلة للتيمم لا الوضوء.
ومن تيمم لفقد الماء في مكان يندر فيه فقد الماء فعليه إعادة كل صلاة صلاها بهذا التيمم فإن كان في مكان يكثر فيه فقد الماء فلا تجب عليه الإعادة.
ويتيمم لكل فرض فلا يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، لكنه يصلي به ما شاء من النوافل، فقد صح عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال: “يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث”، رواه البيهقي.
ومن فقد الماء والتراب صلّى الفرض احترامًا للوقت ثم يعيد، وقيل يترك الصلاة إلى أن يجد أحد الطهورين.
حكم من وضع جبيرة:
الجبيرة هي ما يجبر به محلُّ الكسر، لكنّ الفقهاء يريدون ما هو أعمُّ من ذلك، فيشمل كل ساترٍ يوضع للحاجة على محل العلة.
ويشترط في الجبيرة أن لا تأخذ من الصحيح إلا ما لا بُدّ منه للاستمساك. فمن وضع جبيرة وكان يضره رفعها وغسل ما تحتها إما بزيادة المرض أو بتأخّر الشفاء أو نحو ذلك يمسح عليها بالماء ويتيمم، وهذا التيمم بدل عن غسل العليل والمسح بدل عن الصحيح الذي منعت الجبيرة وصول الماء إليه، فلو كانت الجبيرة بقدر العلة أو كانت زائدة عن العلّة لكن غسل ما تحت الزائد فلا يجب المسح بالماء.
ثم إن كانت الجبيرة وضعت في غير أعضاء التيمم كالرّجْل فينظر إن كان وضعها على طهر فلا تجب عليه الإِعادة، وإن كان وضعها على غير طهر فعليه الإِعادة، أمّا إن كانت الجبيرة وضعت على عضو من أعضاء التيمم كاليد فعليه إعادة تلك الصلاة مطلقًا.
وصاحب الجنابة مخيَّر بين أن يقدم الغُسل على التيمم وبين أن يقدم التيمم على الغسل لأنه لا يجب ترتيب غسل أعضاء الجسد في الغسل والأفضل تقديم التيمم.
وأمّا المحدث حدثًا أصغر فليس له أن يتيمَّم إلا عند صحّة غسل العضو العليل، فلو كانت العلّة في رِجلِه فلا يتيمّم إلا بعد أن يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ثم يتيمم ويغسل رجليه، أو يغسل رجليه ثم يتيمم.
وعند الإمام مالك لا يحتاج إلى تيمم من كان أكثر بدنه صحيحًا بل يكفيه غسل الصحيح والمسح على الجبيرة ولا يعيد.
فائدة: لا تجب الإعادة على من تيمم لفقد الماء بمحل لا يغلب فيه وجوده، أو تيمم بسبب الحاجة إليه لشربه، أو لأنه كان لا يجده إلا بثمن وقد عجز عنه، أو لا يباع إلا بأكثر من ثمن المِثل، أو حال بينه وبين الماء عدو، أو خاف من استعماله تلفًا أو بطء بُرء أو زيادة مرض أو حصول شَيْن فاحش بعضو ظاهر.
فصل في الحيض
يخرج من فرج المرأة ثلاثة دماء: دم الحيض ودم النفاس ودم الاستحاضة.
فأما الحيض: فهو الدم الخارج من فرج المرأة على سبيل الصحّة من غير سبب الولادة، وله أقل وأكثر.
* فأقلّه قدر أربع وعشرين ساعة على الاتصال أو على التقطع ضمن خمسة عشر يومًا.
* وأكثره خمسة عشر يومًا.
* وغالبه ست أو سبع.
ومن مسائل الحيض:
• أن المرأة متى ما رأت الدم تتجنّب ما تتجنبه الحائض من صوم وصلاة ووطء وغير ذلك ولا تنتظر بلوغه يومًا وليلة، ثم إن نقص عن يوم وليلة قضت ما كانت قد تركته من صوم وصلاة، ولا يلزمها غُسل لأن هذا الدم لا يعتبر حيضًا لأنه لم يبلغ أقل الحيض.
• ومنها أنه متى ما انقطع الدم بعد بلوغه أربعًا وعشرين ساعة تغتسل وتصلي وتصوم ويحل وطؤها، فإن عاد في زمن الحيض يتبيّن وقوع عبادتها في زمن الحيض، كأن رأت دمًا لخمسة أيّام على الاتصال وانقطع فاغتسلت وصلَّت وصامت ثم رأته بعد أربعة أيّام مثلًا ولم يستمر إلى أكثر من خمسة عشر يومًا من ابتداء الدم الأول، فتؤمر بقضاء الصوم فقط ولا إثم في الوطء الذي حصل أثناء انقطاع الدم لبناء الأمر على الظاهر.
• ومنها أن الانقطاع يُعرف بأن تكون بحيث لو أدخلت القطنة فرجها لخرجت بيضاء.
فائدة: إذا رأت المرأة الدم لأقل من خمسة عشر يومًا وزاد على عادتها كانت هذه المدة كلها حيضًا، ولو استمر وزاد على خمسة عشر يومًا فإن كانت معتادة تعتبر ما زاد على عادتها استحاضة، هذا على قول في المذهب الشافعي، وأما على القول المرجَّح في المذهب فالمرأة التي سبق لها حيض وطهر فإنها إن رأت الدم واستمر إلى ما بعد خمسة عشر يومًا وكانت ترى الدم مختلف الصفة بأن كانت ترى بعض الوقت دمًا قويًّا وبعض الوقت ضعيفًا فحيضها القوي والضعيف استحاضة لا تنظر إلى عادتها، لو كانت عادتها أنها كانت ترى في شهر أو شهرين خمسة أيام الدم أسود وما بعده أحمر فتمضي على هذا، وإن اختلف الأمر فصارت ترى عشرة أيام سوادًا ثم العشرين الأخيرين ضعيفًا أحمر مثلًا فتأخذ بالتمييز أي تعتبر القوي – وهو الأسود – حيضًا وما بعده استحاضة، ولا تنظر إلى عادتها هذا هو القول الأقوى في المذهب.
وأمّا النفاس فهو الدم الخارج من فرج المرأة عقب الولادة.
* وأقلّه لحظة.
* وأكثره ستون يومًا.
* وغالبه أربعون، فإذا جاوز الدم الستين يومًا كانت مستحاضة.
ويحرم بالحيض والنفاس:
الصلاة، والصوم، والطواف، ومسّ المصحف، وحمله، والمكث في المسجد، والوطء، وقراءة القرءان.
فائدة: لا يجب على المرأة قضاء ما تتركه من الصلوات أثناء الحيض والنفاس، وعليها أن تقضي ما فاتها من الصيام.
فصل في المعفوات
قال الجُرداني في مرشد الأنام فيما يُعفى عنه من النجاسات: “من ذلك ما لا يدركه البصر المعتدل ولو من مغلظ، ومنه الدم والقيح على تفصيل فيهما؛ حاصله أنّهما إِمَّا أن يدركهما الطرف أي النظر المعتدل أو لا، فإِن لم يدركهما عفي عنهما مطلقًا، وإن أدركهما فإِمَّا أن يكونا من مغلظ أو لا فإِن كانا منه لم يعف عنهما مطلقًا، وإن لم يكونا منه فإِمَّا أن يتعدَّى بتضمخه بهما أو لا فإن تعدَّى بذلك لم يعف عنهما مطلقًا، وإن لم يتعدَّ فإما أن يختلطا بأجنبي غير ضروري أَوْ لا فإن اختلطا به لم يعف عنهما مطلقًا، وإن لم يختلطا فإِمَّا أن يكونا من نفسه أو من غيره فإن كانا من غيره عُفي عن القليل منهما وكذا الكثير إذا كان من دم البراغيث ونحوها كما سيأتي، وإن كانا من نفسه فإِمَّا أن يكونا من المنافذ كالفم والأنف والأذن والعين أَوْ لا، فإن كانا منها فإِمَّا أن يكونا كثيرين أو قليليْن فإن كانا كثيرين لم يعف عنهما باتّفاق الشيخين الرملي وابن حجر، وإن كانا قليلين عُفي عنهما عند ابن حجر فقط لأن اختلاطهما برطوبة المنافذ ضروري وهو المعتمد في هذا الباب لأنه مقام عفو وسهولة، وإن كانا من غير المنافذ كالخارج من الدماميل والقروح والبثَرات والباقي بموضع الفصد والحجم بعد سدِّه بنحو قطنة فيعفى عن قليلهما وكثيرهما ما لم يكونا بفعله أو يجاوزا محلهما، وإلا عفي عن القليل فقط وإن اقتضى كلام الروضة العفو عن كثير دم نحو الدمل وإن عصر، واعتمده ابن النقيب والأَذْرعي كما في فتح المعين، وفي القَلْيُوبي على الجلال أن تصحيح العفو عن الكثير المعصور خلاف المعتمد، هذا ومثل فعله فعل غيره برضاه فيضر، نعم لا يضر الفعل في الفَصْد والحجم لأنه لحاجة.
وتعرف القلّة والكثرة بالعادة الغالبة، فما يقع التلطُّخ به غالبًا ويعسر الاحتراز عنه فقليل، وما زاد عليه فكثير، وما شك في كثرته له حكم القليل كما في شرح الرملي لأن الأصل في هذه النجاسات العفو إِلا إذا تيقنا الكثرة، وقيل الكثير ما بلغ حدًّا يظهر للناظر من غير تأمُّل وإمعان، وقيل إنه ما زاد على الدينار، وقيل إنه قدر الكف فصاعدًا، وقيل ما زاد عليه، وقيل إنه الدرهم البغلي أي قدره، وقيل ما زاد عليه، وقيل ما زاد على الظفر، ذكر هذه الأقوال الشهاب الرملي في شرح منظومة ابن العماد، قال العلامة الجمل في تقريره: “وغرضه بذلك جواز تقليدها كلّها لأنه مقام عفو ومسامحة”. اهـ.
ولو تفرّق الدم القليل في مواضع من نحو ثوب ولو جمع كثر كان له حكم القليل عند الإِمام فيعفى عنه وهو الراجح عند الرملي، وله حكم الكثير عند المتولي والغزالي وغيرهما فلا يعفى عنه ورجحه بعضهم، ومن جملة ما بِفِعْلِه ما يقع من فجر الدمل بنحو إبرة ليخرج ما فيه ووضع نحو لَصوق عليه ليكون سببًا في فتحه وإخراج ما فيه فيعفى عن قليله دون كثيره، قال الشبراملسي: “وأَمَّا ما يقع كثيرًا من أَنَّ الإِنسان قد يفتح رأس الدمل بآلة قبل انتهاء المدة فيه مع صلابة المحل ثم تنتهي مدّته بعد فيخرج من المحل المنفتح دم كثير أو نحو قيح فهل يعفى عن ذلك ولا يكون بفعله لتأخّر خروجه عن وقت الفتح أوْ لا لأن خروجه مرتَّب على الفتح السابق، فيه نظر والأقرب الثاني”.
والمراد بمجاوزة المحل أن ينتقل عمَّا ينتشر إليه عادة، وقال بعضهم المراد بمحله محل خروجه وما يغلب السيلان إليه عادة كَمِنَ الركبة إلى قصَبة الرجل وما حاذاه من الثوب مثلا فيعفى عنه في هذه الحالة قليلا كان أو كثيرًا فإن جاوزه عفي عن المجاوز إن قلّ، ولو سال في الثوب وقت الإِصابة من غير انفصال في أجزاء الثوب فالظاهر أَنَّه كالبدن أي فيعفى عنه، ولو انفصل من البدن أو الثوب ثم عاد إليه كان أجنبيًا فيعفى عن قليله فقط، ويعفى عن دم البراغيث ونحوها ممَّا لا نفس له سائلة كالقمل والبق والبعوض أي الناموس قليلا كان أو كثيرًا، بل ولو تفاحش حتى طَبَقَ الثوبَ أي ملأه وعمَّه على المعتمد بشرط أن لا يختلط بأجنبي غير ضروري وأن لا يكون بفعله وأن يكون في ملبوس يحتاجه ولو للتجمّل، فإن اختلط بأجنبي غير ضروري لم يعف عن شىء منه، وإن كان بفعله كأنْ قتل البراغيث مثلا في ثوبه عفي عن القليل فقط، وكذا إن كان في غير الملبوس المذكور كأنْ حمل ثوبًا فيه دم براغيث وصلَّى فيه أو فرشه وصلَّى عليه فإنه يعفى عن القليل فقط، ولو نام في ثوبه فكثر فيه دم البراغيث التحق بما يقتله منها عمدًا لمخالفته السُّنّة من العُري عند النوم، ذكره ابن العماد بحثًا وهو محمول على عدم احتياجه للنوم فيه كما في شرح الرملي، أمّا عند احتياجه بأن لم يكن العُري من عادته أو خشي على نفسه الضرر إذا نام عُريانًا فإنه يعفى عنه، ولا يضرّ اختلاط دم القملة أو البرغوث بقشرة نفسه وقت قتله حيث لم تكثر المخالطة بأن قَصَعَ القملة على ظفره، فإن كثرت المخالطة بأن مَرَتَها بين أصابعه ضرَّ، وكذا يضر الاختلاط بقشرة غيره كأن قتل برغوثًا أو قملة في المحل الذي قتل فيه الأولى واختلط دم الأولى بقشرة الثانية، وقال بعضهم بالعفو عن القليل من ذلك كما في نهاية الأمل.
ومرَّ عن رحمة الأُمة أن دم القمل والبرغوث والبق طاهر عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأَمَّا نفس قشرة البرغوث أو القملة أو البقّة أو نحوها فنجسة غير معفو عنها فلو صلَّى بشىء من ذلك فصلاته باطلة علم به أوْ لا، وبعضهم قال بالعفو إن لم يعلم به وكان ممَّن ابتلي بذلك، ونقل عن الحَفْني والعزيزي أن الشخص لو وجد بعد فراغ صلاته قشر قمل في طيّ عِمامته أو في غرز خياطة ثوبه لا إعادة عليه، وإن علم أنّه كان موجودًا حال الصلاة لأنه ليس مكلّفًا بالتفتيش في كل صلاة، قالا: وهو المعتمد، وتقدّم عن القفّال أنّه قال تبعًا لمالك وأبي حنيفة: إن ميتة ما لا يسيل دمها طاهرة كالقمل والبراغيث والذباب، فيجوز للإِنسان أن يقلِّده في حق نفسه كما في حاشية المَيْهي على شرح الستينَ مسألة.
واعلم أنّه لا يضرّ في العفو عن هذه الدماء اختلاطها وانتشارها بعرق، أو ماء وضوء، أو غسل ولو للتبرّد، أو التنظّف، أو ما تساقط من الماء حال شربه، أو من الطعام حال أكله، أو بصاق في ثوبه، أو ما على ءالة نحو الفصد من ريق ودهن ونحوهما لأنَّ ذلك ضروري، وكذا كل ما يشق الاحتراز عنه كالماء الذي يبلّ به الشعر لأجل سهولة حلقه فلو جرح رأسه حال حلقه واختلط الدم بذلك الماء عفي عنه كما في الكردري واستقرَّ به الشبراملسي على الرملي بخلاف الماء الذي يغسل به الرأس بعد الحلق فلا يعفى عنه كما في الشَّرقاوي، ولا يضرّ الاختلاط بماء الورد والزهر وإن رشّه بنفسه كما اعتمده الرشيدي لأنَّ الطيب مطلوب، ولا يضر مسح وجهه المبتل بطرف ثوبه وإن كان معه غيره كما في الشبراملسي على الرملي.
ثم إن محل العفو عمَّا ذكر إِنَّما هو بالنسبة للصلاة ونحوها كالطواف لا لماء قليل ومائع فلو لاقاهما ما فيه ذلك نجّسهما، نعم لو أدخل يده في إناء للأكل منه مثلًا وهي ملوثة بذلك لم يضر بل يعفى عنه إن كان ناسيًا، فإن كان عامدًا لم يعف عنه بل ينجس ما أصابه، هذا هو الذي اعتمده الحفني خلافًا لمن أطلق العفو، ذكره الشرقاوي؛ وقوله: خلافًا لمن أطلق العفو، هو ابن قاسم على ابن حجر كما بهامشه، وعبارته كما في الشبراملسي: “قوله: لم يحتج لمماسته له إلخ خرج المحتاج لمماسته فيفيد أنّه لو أدخل يده إناءً فيه ماء قليل أو مائع أو رطب لإِخراج ما يحتاج لإِخراجه لم ينجس”، قال الشبراملسي بعد ما ذكر: ومن ذلك ماء المراحيض وإخراج الماء من زير الماء مثلًا، فتنبّه له. اهـ.
وممَّا يعفى عنه روث الذباب وكل ما لا نفس له سائلة وإن كثر، ومثل ذلك بول الخفاش وروثه كما في فتح المعين وعبارته: وعن ونيم ذباب أي روثه، وبول وروث خفاش أي وطواط في المكان وكذا الثوب والبدن، وإن كثرت أي المذكورات من ونيم الذباب وبول وروث الخفاش فلا فرق في العفو عنها بين القليل والكثير ولا فرق أيضًا بين الرطب واليابس كما في التحفة لأن ذلك ممَّا يشق الاحتراز عنه لكونه ممَّا تعمّ به البلوى. ا.هـ بزيادة من حاشيته، ومثل الخفاش فيما ذكر الخُطّاف وكل ما تكثر مخالطته للناس كما في نهاية الأمل ونصّ عبارته: وممَّا يعفى عنه ونيم الذباب، وبول الفَراش والخفاش وهو المعروف بالوطواط، والخطّاف وهو الذي يسكن البيوت المعروف عند العامة بعصفور الجنّة، وكذا كل حيوان تكثر مخالطته للناس كالزُّنبور، وروث كلٍّ من ذلك كبوله، فيعفى عن القليل والكثير في الثوب والبدن والمكان في المسجد والبيوت. اهـ.
وأمَّا بقية الطيور غير ما ذكر فذكر في فتح المعين أنه يعفى عمَّا جفّ من زرقها في المكان إذا عمّت البلوى به، ثم قال: وقضية كلام المجموع العفو عنه في الثوب والبدن أيضًا. ا.هه. وذكر الباجوري أنّه يعفى عنه بقيود ثلاثة، الأوَّل: أن يشق الاحتراز عنه بحيث لو كلّف العدول عنه إلى غيره لشقَّ عليه ذلك وإن لم يعم المحل على المعتمد، الثاني: أن لا يتعمَّد الوقوف عليه بأن لا يقصد مكانه بالوقوف فيه مع إمكانه في مكان خال عنه، الثالث: عدم رطوبة من الجانبين بحيث لا تكون رجله مبتلَّة ولا الزرق رطبًا، قال: وذكر الرملي أن زرق الطير إذا عمَّ الممشى عفي عن المشي عليها مع الرطوبة للضرورة كما نقله الشيخ عطية. اهـ.
ورأيت بهامش حاشية الشرقاوي ما حاصله أنّه إن استقرَّ الشخص بمحل فيه زرْق طير فإن كان قد تعمده مع علمه بما فيه لم يعف عنه وإِلا فإن كان ثَمَّ جهة خالية عنه رأسًا فكذلك وإِلاَّ عفي عنه، ولا يكلّف الانتقال للمحلات الخالية عنه التي بخلاله للمشقة في تتبعها، بخلاف ما إذا كان الخالي عنه جهة مستقلَّة فإنه لا مشقَّة في قصدها، وهذا كله عام فيما قبل الإِحرام وبعده فإذا تبيَّن أَنَّ ثَمَّ جهة خالية عنه رأسًا وجب قصدها وتبيَّن عدم انعقاد الصلاة لأن العبرة في الشروط بما في نفس الأمر. اهـ.
ويعفى عن الماء الخارج من فم النائم على القول بأنّه نجس، وعن الدم الباقي على اللحم حتى لو طبخ وصار الماء متغيِّرًا به لا يضر على المعتمد سواء كان واردًا أو مورودًا، نعم إن لاقاه ماء لغسْله اشترط زوال أوصافه قبل وضعه في القدر، ومن ذلك يعلم أَنَّ ما يفعله الجزّارون الآن من صبّهم الماء على اللحم لإِزالة الدم عنه مضر لعدم زوال الأوصاف، وحينئذٍ فيجب على من يأخذ من هذا اللحم أن يغسله قبل وضعه في القدر حتى تصفو الغُسال فليتنبّه لذلك، وقيل: يجب غسله مطلقًا وإن لم يصبه ماء، وقيل يعفى عنه وإن اختلط بأجنبي، وقيل إنه طاهر.
ويعفى عن محل الوشم المعروف الآن بالدَّق، وهو غرز الجلد بنحو إبرة حتى يبرز الدم ثم يذر عليه نحو نِيلة ليزرقَّ به أو يخضر هذا إذا فعله لحاجة لا يصلح لها غيره أو كان وقت الفعل صغيرًا أو مجنونًا أو مكرهًا أو جاهلًا بالتحريم معذورًا أو لم يقدر على إزالته من غير ضرر يبيح التيمم، فإن فعله لغير حاجة أو لحاجة يَصلح لها غيره وهو مكلَّف مختار عالِم بالتحريم وجب عليه إزالته إن قدر عليها من غير ضرر يبيح التيمم ولا يصح له وضوء ولا غسل ولا صلاة ما دام ذلك موجودًا به، وإذا مسَّ به شيئًا مع الرطوبة نجّسه، وهناك قول ضعيف عندنا ومعتمد عند الحنفيّة أَنَّ محل الوشم يطهر بالغسل وإن لم يزل اللون كما أفاده العلاّمة الحُلواني في رسالته المسمّاة بالوسم.
ويعفى عن طين محل مرور متيقن نجاسته ولو من مغلظ بشرط أن تكون النجاسة مستهلكة فيه، أمَّا إذا تميزت فلا يعفى عنه ما لم تعمَّه فإن عمّته عفي عنها على المعتمد كما في الشبراملسي خلافًا لابن حجر حيث استوجه عدم العفو، ولا فرق في محل المرور بين الشارع وغيره كدِهليز بيت وحمام وما حول الفساقي ممَّا لا يعتاد تطهيره، أَمَّا ما جرت العادة بحفظه وتطهيره إذا أصابته نجاسة فلا يعفى عنه بل متى تيقنت نجاسته وجب الاحتراز عنه، ومنه ممشاة الفساقي المسماة بالطهارة فتنبه لذلك، أفاده الشبراملسي، ويعفى عن الطين المذكور ولو مشى فيه حافيًا فلا يجب عليه غسل رجليه، ولو انتقل إلى محل فتلوث عفي عنه إذا كان غير مسجد وإِلا فلا يعفى عنه لأن المسجد يُصان عن النجاسة ويمتنع تلويثه بها، ومثل الطين فيما ذكر الماء كماء المطر النازل في الشوارع النجسة والماء الذي ترش به أيّام الصيف، ومحل العفو عن ذلك إذا وصل إلى الشخص بنفسه أما لو تلطخ كلب بطين الشارع وانتفض على إنسان أو رشّ السقاء على الأرض النجسة أو على ظهر كلب فتطاير منه شىء على شخص فإنه لا يعفى عنه، قال الرشيدي في حاشيته على شرح منظومة ابن العماد: ونقل بالدرس عن الشيخ سالم الشَبْشِيري العفو عمَّا تطاير من طين الشوارع عن ظهر الكلب لمشقّة الاحتراز عنه، وصرّح بذلك البرماوي أيضًا وخالف الشبراملسي على الرملي فمال إلى عدم العفو. اهـ. وفي حاشية القليوبي على الجلال ما نصُّه: وسواء أصابه الطين المذكور من شارع أو من شخص أصابه أو من محل انتقل إليه ولو من نحو كلب انتفض كما مالَ إليه شيخنا ءاخرًا ولا يكلّف التحرز في مروره عنه ولا العدول إلى مكان خال منه. ا.هه. وإنَّما يعفى عن القدر الذي يعسر الاحتراز عنه غالبًا وإن كثر عرفًا ويختلف باختلاف الزمان والمكان والصفة، فيعفى في الشتاء عمَّا لا يعفى عنه في الصيف وفي الذيل والرِجل عمَّا لا يعفى عنه في الكم واليد، وفي حق الأعمى زيادة عن البصير، أمّا ما لا يعسر الاحتراز عنه غالبًا بأن ينسب صاحبه إلى تقصير كأنْ ترك التحفّظ حين المشي أو سقط فتلوث فلا يعفى عنه.
ويعلم ممَّا تقرَّر أنَّ المدار هنا على عسر الاحتراز وعدمه من غير نظر لكثرة ولا قلّة وإلا لعظمت المشقّة، وقد أفاد الشبراملسي على الرملي أنه يعفى عن اللوث الحاصل من طين الشارع في جميع أسفل الخف وأطرافه وإن مشى فيه بلا نعل، بخلاف مثله من الثوب والبدن أي لكثرة المشقّة في التحرز بالنسبة للنعل. وذكر العلاَّمة أبو خضير في نهاية الأمل أنّه لو حصل في نعله شىء من طين الشوارع أو قليل من تراب المقبرة المنبوشة أو الرماد النجس عفي عنه، وكذا لو عرقت الرجل في النعل أو اتَّسخت أي وإن كثر الوسخ كما يحصل للتّراسين ونحوهم فإِنَّه يُعفى عن وسخ نعالهم الذي يكون في أرجلهم، ولو أصاب وسخ النعل ثوبًا عفي عنه. ا.هـ. بزيادة من تقرير الجمل على شرح منظومة ابن العماد، ومن المعفو عنه ماء الميازيب المشكوك فيه بل اختار النووي الجزم بطهارته، فلو كان الشخص مارًّا بالطريق فنزل عليه ماء من ميزاب جهله فالأولى له عدم البحث عن هذا الماء هل هو طاهر أو نجس لأنه محكوم بطهارته عملًا بالأصل ما لم يعلم خلافها، ومثل ذلك الماء الذي يصب من الشبابيك فالأولى عدم البحث عنه بل قالوا: إن البحث عنه بدعة. ولا يعفى عمَّا جرت به العادة من طلوع الكلاب على الأسبلة ورقادهم في محل وضع الكيزان وهناك رطوبة من أحد الجانبين، ولو وقع حيوان متنجِّس المنفَذ غير ءادمي في مائع أو ماء قليل وأُخرج حيًّا عفي عمَّا على منفذه فلا ينجس المائع ولا الماء القليل، أَمَّا إذا مات فيهما فإنه ينجسهما ما لم يكن ممَّا لا نفس له سائلة كما سيأتي.
ومثل المنفذ رجل الطائر وفمه بل وسائر أعضائه كما في البُجَيْرَمي نقلًا عن بعضهم، وفيه أيضًا أنّه لو نزل طائر وإن لم يكن من طيور الماء في ماء وزرق فيه أو شرب منه وعلى فمه نجاسة عفي عنه لتعذر الاحتراز عن ذلك. اهـ.
وذكر الرشيدي في حاشيته على شرح منظومة ابن العماد أنَّ القط والحيوانات والطيور إذا تنجس فمها أو رجلها فإن غابت غيبة يمكن ورودها فيها ماء كثيرًا حكمنا عليها بالنجاسة وعلى مصابها بالطهارة، وإن لم تغب حكمنا عليها بالنجاسة وكذا على مصابها لكنه يعفى عنه. اهـ.
ويعفى عن قليل دخان نجاسة، وعن قليل شعر نجس إذا كان من غير مغلظ وعن الكثير في حق الراكب والقَصَّاص. ويعفى عن غبار الطريق النجس، وعن غبار السرجين حتى لو أصاب عضوه المبتل أو غيره من رطب أو مائع لم يضر هذا إن كان قليلا عرفًا، نعم يعفى عن كثير غبار السرجين في حقّ الفران، ولو بال الحيوان أو راث فوق كوم الحبوب حال الدراسة عفي عنه، ولو عرق محل الاستنجاء بالحجر وانتشر العرق عفي عنه.
وكل ميتة لا دم لها سائل إذا وقعت في المائع أو الماء القليل عفي عنها إِلا إن غيرت ما وقعت فيه ولو تغيرًا قليلا، أو طرحت فيه وهي ميتة فلا عفو، نعم لو زال التغير عادت الطهارة كما في فتح الجواد خلافًا للرملي والقليوبي، ولو صفي ما فيه تلك الميتة من خرقة على مائع ءاخر لم يضر، ولو كثرت في المائع فأخرج شيئًا منها على رأس عود مثلًا فسقط منه في المائع ثانيًا بغير اختياره لم يضر وله إخراج الباقي بهذا العود. وضابط ما لا نفس له سائلة: كل ما لا يسيل دمه عند شق عضو منه وذلك كالزنبور والعقرب والوزغى والسُّحلية والذباب والدود والفراش والنمل والبرغوث والقمل والبق والصُّرصار والقُراد والخنفس والنحل وبنت وردان والعنكبوت، وممَّا يسيل دمه الحية والضفدع والفأرة.
قال ابن حجر في شرح المقدمة الحضرمية: وما شكَّ في سيل دمه له حكم ما يتحقَّق عدم سيلان دمه ولا يجرح خلافًا للغزالي. اهـ. ووافقه على ذلك الشبراملسي حيث قال: والمتجه أنه لو شكَّ فيه فله الإِعراض عن اختباره والعمل بالطهارة حيث احتمل أنَّه ممَّا لا يسيل دمه لأنا لا ننجس بالشك، هذا ولا تنسَ ما تقدَّم لك غير مرة من القول بطهارة تلك الميتة فإن فيه فسحة، ويعفى عن الخبز المخبوز بالسرجين بأن وضع الرغيف على نفس السرجين بعد إيقاده، أو على عرصة عجنت به فيجوز أكله وفتُّه في نحو لبن ولو بقي به شىء من الرماد، ولا يجب غسل الفم إذا أراد الصلاة وتصح مع حمله كما قاله الخطيب وخالفه العلامةُ الرملي، قال الشيخ عبد الكريم المَطَرِي في حاشيته على شرح الستين مسألة: والظاهر أنَّ الجبن المعمول بالإنْفَحَة أي النجسة كالخبز في ذلك إذ لا فرق بينهما فليراجع. ويعفى عن القليل من نقيع السُّقوف حيث تحققت نجاسته بأن كان السطح مليسًا بتراب السرجين، ولو سُلقتِ البيضة بالماء النجس تنجس ظاهرها فقط دون باطنها من البياض والصفار ولا كراهة في أكلها، ولو نقعت حمصة أو زيتونة في ماء نجس طهرت بغسل ظاهرها، ولو كان على الجلد بعد دبغه شعر قليل عفي عنه، وتقدَّم عن السبكي أنه اختار طهارته وإن كثر. ويعفى عن الدود الميت في الجبن والمِشّ والخل والفاكهة ويجوز أكله معه لعسر تمييزه ما لم يلقه فيه بعد خروجه منه، ولو تنجس الجبن بسبب وقوع فأرة في إنائه طهر بصب الماء الطهور عليه ولا يحتاج إلى عصر، وأمَّا المِشُّ فيتعذَّر تطهيره لأنه مائع.
ويعفى عن دود القزّ إذا مات فيه كما قاله الحَمَوي عن بعضهم معلّلًا له بأنَّ الحرير لا يخرج منه إلا بإلقائه في الماء وإغلائه فدعت الضرورة إلى العفو، ولو صنع للنحل كوارة من روث البقر أو من رماد النجاسة عفي عنها فيجوز الأكل من عسلها، ولو حلبت المأكولة فأصاب لبنها وقت الحلب شىء من بعرها أو بولها عفي عنه، وكذا لو كان ضرعها متنجسًا بنجاسة تمرغت فيها أو وضعت على ثديها لمنع ولدها من شربها عفي عنها، ولو وضع إناء فيه لبن على نار نجسة لتسخينه فتطاير شىء منها في اللبن عفي عنه، ولو سقي البطيخ أو نحوه بالنجس حتى نما جاز أكله، ولو بني المسجد بالآجر المعجون بالزبل أو فرشت أرضه به عفي عنه فتجوز الصلاة عليه والمشي عليه ولو مع رطوبة الرجل. ويعفى عن الجِرارِ والأزيار والأباريق والقُلَلِ ونحوها المعجونة بالطين المخلوط بالسرجين لعموم البلوى بذلك فلا تنجس المائع ولا الماء القليل إذا وضع فيها. وعند أبي حنيفة النار مطهرة فرماد النجس طاهر عنده، وحكي عن أبي زيد الحضرمي من أئمَّتنا وءاخرين أنَّ اللبن بكسر الموحدة إذا عجن بعين النجاسة وطبخ بالنار يطهر. وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن الأرض المتنجسة إذا لم يبق للنجاسة طعم ولا لون ولا ريح تطهر بالشمس لكن لا يتيمّم منها، وعن بعضهم وبالظل أيضًا، وأمَّا الثوب إذا أصابه البول وجفِّف في الشمس فالمذهب القطع بأنه لا يطهر، وقيل بِطَرْدِ القولين في الأرض فيه، قال الفُوراني فإن قلنا يطهر بالشمس فهل يطهر بالجفاف في الظل فيه وجهان، قال أبو الفتوح العجلي بكسر فسكون: ولا خلاف أنه لا يكتفى بمجرد الجفاف بل جفاف ينقطع معه ءاثار النجاسة يعني الطعم واللون والريح ذكر ذلك العلامة الحُلواني في رسالته.
ويعفى عن جِرَّة الحيوان بكسر الجيم وهي ما يخرجه من جوفه للمضغ ثانيًا ثم يبتلعه، فلو أصاب ريقه شيئًا أو وضع فمه في ماء قليل عفي عنه، وأَما قلَّة البعير فطاهرة لأنها من اللسان وقد تقدَّم ذلك. ويعفى عن فم الصغير والصغيرة وإن تحقَّقت نجاسته كما صرَّح به ابن الصلاح حيث قال: يعفى عمَّا اتّصل به شىء من أفواه الصبيان مع تحقق نجاستها، وألحق غيره بها أفواه المجانين وجزم به الزركشي، قال السيد أبو بكر: ونقل ابن قاسم عن الرملي أنه لو تنجس فم الصغير بنحو القىء ولم يغب وتُمُكن من تطهيره بل لو استمر معلوم التنجس عفي عنه فيما يشق الاحتراز عنه كالتقام ثدي أمّه فلا يجب عليها غسله، وكتقبيله في فمه على وجه الشفقة مع الرطوبة فلا يلزم تطهير الفم. اهـ. وما قاله ابن الصلاح أسهل وبه أفتى ابن حجر. ويعفى عن ثياب الأطفال وإن كان الغالب عليهم النجاسة حتى لو تعلق صبي بمصلٍّ لم يضر، نعم لو تحققت النجاسة فلا عفو لأنه يمكن الاحتراز عنهم في الصلاة. وعند مالك رضي الله تعالى عنه يعفى عن الثياب المذكورة وإن تحققت النجاسة، وعنده أيضًا لو احتاطت المرضعة واحترزت وغلب على ثيابها شىء من بول الصبي أو روثه عفي عنه فلها الصلاة معه من غير نَضْح ولا غسل لكن يسنّ لها أن تجعل للصلاة ثوبًا ءاخر وهذه رخصة عظيمة. ومقتضى قواعد مذهبنا معشر الشافعيين العفو أيضًا لأنَّ المشقَّة تجلب التيسير لكن محله عندنا إذا لم تقدر على ثوب ءاخر أو قدرت وحصل لها مشقَّة شديدة من غسله بأن كانت في الشتاء أفاد ذلك نظم ابن العماد وشرحه للرملي وحاشية الرشيدي عليه.
ويعفى عمَّا تلقيه الفيران في بيوت الأخلية إذا كان قليلًا عرفًا ولم يتغيّر أحد أوصاف الماء وإِلا فلا عفو، كذا ذكره الشيخ أبو خضير في نهاية الأمل، وعبارة الشيخ عبد الكريم في حاشيته على شرح الستين قال الشارح في فتاويه يعني الرملي الكبير: يعفى عمَّا تلقيه الفيران من النجاسة في حياض الأخلية، ومثله زرق الطيور الواقع فيها مسقفةً كانت أو لا إذا كثر كل منهما وشقَّ الاحتراز عنه ولم يتغيَّر الماء سواء كان دون القلّتين أم لا، فإن كثر ولم يعسر الاحتراز عنه لم يعف عنه. اهـ. وذكر في فتح المعين أنَّ الفزاري بحث العفو عن بعر الفأرة إذا وقع في مائع وعمَّت البلوى به، وذكر أيضًا أن ابن حجر أفتى بالعفو عن رطوبة الباسور لمبتلى بها، والمراد بها ما يخرج من دم ونحوه. ويعفى عن كيّ الحمصة المعروف إذا كان مفعولا لحاجة ولا يقوم غيره مقامه بخلاف ما إذا فعل لغير حاجة أو لها وكان غيره يقوم مقامه فلا يعفى عنه، ويعتمد في ذلك قول الطبيب العدل أو معرفة نفسه، وفي كفاية التجربة خلاف، ومثل العدل غيره إذا وقع في القلب صدقه.
ويعفى عن الحمصة التي توضع فيه وتصح الصلاة والإِمامة بها، ولا يضرّ انتفاخها وعظمها في المحل ما دامت الحاجة داعية إليها بان كانت تتشرّب، ويجب نزعها بعد انتهاء الحاجة إليها فإن تركها بلا عذر ضرَّ ولا تصح صلاته حينئذٍ، ولا يضر إخراجها ووضع غيرها فيه مع بقاء أثر النجاسة من الأولى، كما لا يضر تغيير اللصوق المحتاج إليه وإن بقي أثر النجاسة من الأول ما دامت الحاجة داعية إلى ذلك، هذا كلّه إذا لم يقم غيرها مقامها في مداواة الجرح والألم وإِلا لم يعف عنها فلا تصح الصلاة وهي في الجرح بل يجب إخراجها وغسله عند كل صلاة، ومن الناس من لا يلتفت الآن في استعمالها إلى كل هذه الأحكام، وحينئذ فالأولى لهم أن يقلّدوا ما سيأتي عن الحنفيّة والمالكية.
هذا وبالجملة فالمعفوّات كثيرة وتنقسم أربعة أقسام:
* قسم يعفى عنه في الماء وغيره وهو ما لا يدركه الطرف أي النظر المعتدل.
* وقسم يعفى عنه في غير الماء من الثوب والبدن كالدم القليل وأثر الاستنجاء بالحجر.
* وقسم يعفى عنه في المكان فقط وهو زرق الطيور بالشروط المارة.
* وقسم يعفى عنه في الماء دون غيره من الثوب والبدن كالميتة التي لا دم لها سائل بالشروط المارَّة أيضًا وما على منفذ الحيوان غير الآدمي فإنه إذا وقع في الماء لا ينجسه، ولو حمل في الصلاة بطلت ومثل الماء المائع والمنفذ ليس بقيد كما تقدّم.
خاتمة: اعلم أنَّ مذهب الحنفيّة في العفو أوسع من مذهبنا لأنهم عمّموه في كل نجاسة لم تتجسد بأن كانت رقيقة لا جرم لها يشاهد بالبصر وإن شُوهد أثره فيعفى عنها حينئذٍ إذا كانت قدر عرض مُقَعَّر الكف، وطريق معرفته أن تغرف الماء باليد ثم تبسطها فما بقي من الماء فهو مقدار عرض ذلك، وكذا إن تجسدت ولم تزد على وزن مثقال وهو عشرون قيراطًا، وهذا المثقال هو المسمى بالدرهم البغلي نسبة إلى رأس البغل رجل من الملوك ضربه لعمر رضي الله تعالى عنه في الإِسلام، لكن العفو إِنَّما هو بالنسبة لصحّة الصلاة فلا ينافي أنّه يسنُ غسل قدر الدرهم وما دونه، وقيل يكره قدر الدرهم تحريمًا فيجب غسله وما دونه تنزيهًا فيُسنّ. ثم هذا التفصيل في العفو إِنَّما هو في النجاسة المغلّظة عندهم كالدم المسفوح من سائر الحيوانات إلا دم شهيد ما دام عليه، وما بقي في لحم مهزول أو عروق من مذكاة وكبد وطحال وقلب ما لم يسل ودم سمك ولو كبيرًا ولو سال منه وقمل وبرغوث وبق وإن كثر أو تعمد إصابته فيعفى عن هذه المستثنيات كلّها، وكالخمر وكل ما يخرج من بدن الإِنسان مما يوجب الغسل كمنيه أو الوضوء كقيئه إذا ملأ الفم ومذيه ووديه وعَذِرته وبوله ولو صغيرًا لم يطعم، وكذا بول غير المأكول إِلا الخفاش فطاهر، ومثل عذرة الإِنسان زرق كل طير لا يزرق في الهواء كبط أهلي ودجاج، أما ما يزرق فيه فإن كان مأكولا فطاهر وإِلا فَمُخَفَّف وسيأتي حكمه، وكعذرة الإِنسان أيضًا خرء كل حيوان غير الطيور وغير الخفاش إذ خرؤه طاهر كبوله، وذلك كروث الفرس والبقر وغيرهما ممَّا يؤكل وكروث الحمار والفيل وغيرهما ممَّا لا يؤكل، وقال أبو يوسف ومحمد: خرء كل حيوان غير الطيور مخفّف وطهره محمد في قول ءاخر للبَلوى فروث نحو الحمار طاهر عنده والراجح الأول، وقول أبي يوسف ومحمد: خرء كل حيوان، المراد بالحيوان ما له روث أو خِثْيٌ أي سواء كان مأكولا كالفرس والبقر أو لا كالحمار وإِلا فخرء الآدمي وسباع البهائم متّفق على تغليظه كما في الفتح والبحر وغيرهما، فافهم، قاله ابن عابدين وذكر قبل ذلك أن الروث للفرس والبغل والحمار والخثي بكسر فسكون للبقر والفيل. اهـ.
وأمَّا النجاسة المخفَّفة عندهم وهي بول ما يؤكل لحمه ومنه الفرس وزرق الطير الذي لا يؤكل وكذا خرء كل حيوان غير الطيور على ما مرَّ عن أبي يوسف ومحمد فيعفى منها عما دون ربع العضو كاليد والرجل إن كان المصاب عضوًا، وعمَّا دون ربع الثوب إن كان المصاب ثوبًا، والمراد ربع طرف أصابته النجاسة كالذيل والكم، وقيل بل عما دون ربع جميع البدن أو الثوب ورجحه في النهر لكن الفتوى على الأول، وعلى كل فالربع هو حد التفاحش الذي لا يعفى عنه. وقال أبو بكر الرازي: حدّه شبر في شبر، وقال غيره: ذراع في ذراع، والمسألة مبسوطة في كتبهم. وفي شرح التنوير أن بول ما يؤكل لحمه طهره محمد، وأنَّ زرق الطير الذي لا يؤكل قيل بطهارته كذا ذكره العلامة الحلواني في رسالته مع زيادة، ثم قال: وأوسع من ذلك كلّه ما عند المالكية من القول بأن إزالة النجاسة مطلقًا لا تجب، قال: ويحضرني الآن في ذلك جواب سؤال رفع إلى العلامة الشيخ يوسف الزيّات شيخ المالكيّة بالجامع الأحمدي أثناء هذا القرن نصه: ما تقول السادة المالكية فيمن صلَّى متلبسًا بالنجاسة متعمدًا ما الحكم في صلاته؟ ونصُّ الجواب: أَنَّ في إزالة النجاسة عندنا أعني المالكية خلافًا على ثلاثة أقوال: فقيل بالوجوب، وقيل بالسنيّة، وقيل بالاستحباب. والقول بالسنيّة قوي في المذهب قال به جمهور المالكيّة، وعليه فمن صلَّى بالنجاسة صحَّت صلاته ولا فرق عند المالكية بين المغلظة والمخفّفة ولا يرون هذا التقسيم أصلا، فينفع لمن عرض له الوسواس وتمكّن منه أن يقلّد هذا القول لأنه راجح في المذهب، بل ربَّما وجب عليه العمل به لأن من قواعد الشرع ارتكاب أخفّ الضررين ولو كان هذا المقلد شافعيًّا فيتوضأ على مذهبه فيمسح بعض رأسه ويقلّد المالكية في القول بسنيّة إزالة النجاسة لصحة صلاته لأن المعتمد جواز التلفيق في العبادة بين مذهبين كما أفتى به العلامة العدوي أي بفتح العين والدال نفعنا الله به والتقليد في تلك الحالة جائز ولو بغير ضرورة، ولا يشترط في المقلّد أن يعتقد أن مقلَّدَهُ أرجح بل لو اعتقد أنه راجح كفاه. وللمالكي ومن قلّده أن يأكل بيده من غير غسل ولو خالط بها ريق الكلب وله الصلاة بما مسَّه ريق الكلب من ثيابه وبدنه، وعذرته وبوله كغيرهما من سائر النجاسات فيجري فيها القول بالسنيّة، وبالجملة فدين الله يسر لا عسر قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [78] ﴾ [سورة الحج] وقال صلى الله عليه وسلم: “بُعِثْت بالشريعة السمحة” أي الدين السهل فينبغي لكل عاقل أن يدفع الوسواس عن نفسه بقدر ما يمكنه فإذا حدّثه ببطلان صلاته أو وضوئه كذبه في ذلك ويحكم بصحة ذلك. اهه. الجواب بحروفه وهو نفيس جدًّا.
وقوله: فيتوضأ على مذهبه فيمسح بعض رأسه، مبني على مشهور مذهب مالك من وجوب مسح جميع الرأس ومقابله الاكتفاء بمسح ثلث الرأس أو مسح مقدّمه أو مسح ثلاثة أجزاء من ثلاث شعرات أو مسح بعض شعرة كمذهبنا. انتهى، وما أحسن قول العلامة ابن العماد في منظومته: [البسيط]
لم يجعل الله في ذا الدين من حرج لطفًا وجودًا على إِحْيَا خليقته
وما التنطّع إِلا نزغة وردت من مكر إبليس فاحذر سوء فتنته
إن تستمع قوله فيما يوسوسهأو نصح رأي له ترجع بخيبته
القصد خير وخير الأمر أوسطه دع التعمّق واحذر داء نكبته
والحرج الضيق والمشقة، والقصد التوسُّط، والتعمّق والتنطّع معناهما واحد وهو التشديد في الطهارة والصلاة ونحوهما من أنواع العبادات، وقد قالوا: إِنَّ للموسْوِسِين شيطانًا يضحك عليهم ويستهزىء بهم نسأل الله تعالى السلامة منه بمنِّه وكرمه ءامين”. انتهى كلامه.