Isra’ Celebration – 1430
اعتاد المسلمون في كل عام أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب هذه الليلة التي خصّ الله بها نبيّه بمعجزة عظيمة دون سائر الأنبياء والرسل عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. فالإسراء والمعراج من بواهر معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يُعهد قبل ذلك أن قطع أحد من البشر مثل هذه المسافة الطويلة من المسجد الحرام بمكة الى المسجد الأقصى بالقدس، ثم اخترق طباق السموات السبع وعلا إلى ما شاء الله ثم عاد في ثلث ليلة. وكانت هذه الحادثة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد موت السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
إن معجزة الإسراء من الآيات التي ثبتت بنص القرءان الكريم، وقد أجمعت أمة محمد على أن الإسراء كان بالجسد والروح، إذ قال الله عز وجلّ في كتابه العزيز:﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريهُ من ءاياتنا إنه هو السميع البصير﴾ [الإسراء/1]، وروى البيهقيّ عن شداد بن أوس أنه قال:"قلنا يا رسول الله كيف أُسري بك". قال:"صليتُ بأصحابي صلاة العتمة بمكة معتمًا وأتاني جبريل عليه السلام بدابّة بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال اركب فاستصعبت عليّ فدارها بأُذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضًا ذات نخلٍ فأنزلني فقال صلِّ فصلّيتُ ثم ركبنا فقال:أتدري أين صليتَ. قلتُ:الله أعلم. قال:صليتَ بيثرب. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضًا فقال:انزل فنـزلتُ ثم قال:صلِّ، فصلّيت ثم ركبنا فقال:أتدري أين صليت صليتَ بطور سيناء حيث كلم الله عز وجل موسى عليه السلام. ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفُها، ثم بلغنا أرضًا بدت لنا قُصور فقال:انـزل فنـزلت فقال:صلِّ فصلّيتُ ثم ركبنا قال:أتدري أين صليت. قلتُ الله أعلم. قال: صليتَ ببيتِ لحمٍ حيث وُلد عيسى المسيح بن مريم، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قِبلة المسجد فربط به دابّته ودخلنا المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر فصليتُ في المسجد حيث شاء الله.
وقال صلى الله عليه وسلم:"ثم دخلتُ بيتَ المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدّمني جبريلُ حتى أمَمْتُهم ثم صعد بي إلى السماء" رواه النَّسَائيّ.
وكان جبريلُ قد شق صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل إسرائه وغسله بماء زمزم ثم ملأهُ حكمة وإيمانًا. إنها ءاياتٌ عظيماتٌ جليلاتٌ يُحارُ فيها العقلُ، فكان لا بدّ له صلى الله عليه وسلم أن يتهيأ لرؤية عجائب تَيْنِكَ المعجزتين اللتين لم تكونا لنبي غيره، وقد رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم في إسرائه أشياء عجيبة منها: الدنيا: بصورة عجوز. إبليس: رأى شيئًا متنحيًا عن الطريق يدعوه وهو إبليس، وكان من الجن المؤمنين في أول أمره ثم كفر لاعتراضه على الله. ماشطة بنت فرعون: شم رائحة طيبة من قبرها فأخبره جبريل قصتها مع فرعون وأنها ماتت شهيدة هي وأولادها. ورأى أناسًا تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من نار وهم خطباء الفتنة. ورأى ثورًا خرج من منفذ ضيّق ثم يريد أن يعود فلا يستطيع وهو الذي يتكلم بالكلمة الفاسدة. ورأى أناسًا يسرحون كالأنعام على عوراتهم رقاع، وهم الذين لا يؤدون الزكاة. ورأى قومًا ترضخ رءوسهم وتعود كما كانت وهم تاركو الصلاة. ورأى قومًا يتنافسون على اللحم المنتن ويتركون اللحم الجيد المشرح وهم الزناة. ورأى أناسًا يشربون من الصديد الخارج من الزناة وهم شاربو الخمر. ورأى قومًا يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية وهم الذين يمشون بالغيبة.
المعراج
وأما المعراج الذي هو صعود النبي صلى الله عليه وسلم من بيت القدس إلى السموات السبع وما فوقها، فهو من الأمور التي ثبتت بنص الأحاديث الصحيحة، وأما القرءان فقد جاء فيه ما يكاد يكون نصًا صريحًا إذ قال الله تعالى: ﴿ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى﴾.
وتخبرنا الأحاديث كيف عُرج به إلى السموات السبع فالتقى بالأنبياء وكيف أنه وصل في المكانة والمكان إلى ما لم يصل إليه نبي غيره، فرأى عجائب في ذلك العالم العلوي، كان من جملتها: مالك خازن النار: قال جبريل إن مالكًا لم يضحك منذ خلقه الله تعالى. البيت المعمور: رءاه الرسول في السماء السابعة و هو بيت مشرف وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون. سدرة المنتهى: وهي شجرة عظيمة بها من الحسن ما لا يصفه أحد. الجنة: وهي فوق السماء السابعة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. العرش: وهو أعظم المخلوقات حجمًا، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". وقد خلقه الله إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته. ولا يكون من المسلمين من يعتقد أنه تعالى جالس على العرش لأنه تعالى ليس كمثله شيء ولأنه سبحانه موجود بلا مكان. ووصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ. وسمع كلام الله الذاتي الأزلي الأبدي الذي هو صفته تعالى بلا كيف ولا صوت ولا حرف ولا لغة ولا يُبدأ ولا يُختتم. وفهم منه فرضية الصلوات الخمس، وأنه يغفر لأمته كبائر الذنوب لمن شاء الله له ذلك، وأن الحسنة تُكتب بعشرة أمثالها.
ورأى الله عز وجل بفؤاده لا بعينه، أي جعل له قوة الرؤيا في قلبه لا بعينه، لأن الله لا يُرى بالعين الفانية في الدنيا، إنما المؤمنون يرون الله وهم في الجنة بأعينهم الباقية بلا مكان ولا جهة ولا مقابلة ولا ثبوت مسافة ولا اتصال شعاع بين الرائي وبينه عز وجلّ، إذ يقول الله تعالى: ﴿وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ وأما رؤية الرسول لله فقد كانت بقلبه لا بعينه، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى) ﴿ولقد رءاه نزلةً أخرى﴾: رءاه بفؤاده مرتين.
ورأى صلى الله عليه وسلم سيدنا جبريل عليه السلام على هيئته الأصلية فلم يغش عليه وكان قد رءاه قبل ذلك وهو في مكة فغُشي عليه. قال تعالى: ﴿ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ والمعنى أن جبريل دنا من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿فكان قاب قوسين﴾ أي ذراعين ﴿أو أدنى﴾ أي بل أقرب، فظهر له بهيأته الأصلية وله ست مائة جناح وكل جناح يسد ما بين المشرق والمغرب.
ليس بعزيز على الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما أن يجعل الإسراء والمعراج في ثلث ليلة، فهو القادر على كل شيء الفعال لما يريد، وإنها حكمة عظيمة يعتبر فيها المؤمن الذي شاء الله له أن يعتبر، فيتفكر في ملكوت السموات والأرض ليزداد يقينًا بوجود خالقٍ عظيمٍ حكيم، إنها حكمة يُتعلم فيها كيفية التسليم والتصديق لما جاء به نبي الهدى صلى الله عليه وسلم. لننظر إلى أبي بكر الصديق ذاك الرجل لم يأت بعده في أمة محمد مثله، لقد أيقن أن صاحبه، ذاك النبيّ الأميّ، صادق لا يكذب، لأن الكذب يُنافي منصب النبوّة، ذلك المنصب الذي أكرم الله به خيار خلقه ففضلهم على سائر العالمين.
موقف أبي بكر الصديق
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الكفار ما حصل معه تلك الليلة إستهزأوا به ولم يصدقوه وذهب ناس منهم إلى أبي بكر فقالوا له:"هل لك في صاحبك يزعم أنه قد جاء بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة. فقال أبو بكر:"أوَ قال ذلك؟" قالوا:"نعم" قال:"فأشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق، إني أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء". وبها سُمي أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وطلب الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم المسجد الأقصى لأنهم يعلمون أنه لم يرحل مع أهل بلده إلى هناك قط فجمع له أبو جهل قومه فحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال قومٌ منهم ممن كان قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد:"أما النعت فقد والله أصاب".
المقصود من المعراج
وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه – ويكفر من اعتقد ذلك – إنما القصد من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم باطلاعه على عجائب في العالم العلوي، وتعظيم مكانته ورؤيته للذات المقدس بفؤاده من غير أن يكون الذات في مكان.
ولنحذر جميعًا من المشبهة المجسمة الذين وصفوا الله بما لا يجوز عليه، فاعتقدوا أنه جسمٌ وأنه متحيز في مكان، أو أنه دنا من الرسول بذاته، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرا. فهذا أعلم أمة محمد وهو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه يزيل شبهتهم ويبطل حجتهم فيقول:"كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان" ويقول:"إن الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته"، ويقول:"من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود". نسأل الله أن يُعيد هذه الذكرى على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالأمن والسلامة والبركة، إنه على كل شيء قدير.
|
|