الاحتفال بالمولد النبوي الشريف جائز بلا خلاف
فائدة فيها بيانُ أنَّ عملَ المولدِ بدعةٌ حسنة ليس بدعة ضلالة لأنّ البدعةَ الضلالة هي التي أُحدِثت على خِلافِ شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما أُحدِث على وفاقه فليس ضلالاً. ويُميّز البدعةَ الحسنةَ من البدعةِ السيئةِ أهلُ العلمِ فما استحسنهُ العلماءُ فهو حسَنٌ عند الله وما استقبحوهُ فهو قبيحٌ عند الله. روى مسلم في الصحيح عن جَرير بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَن سَنَّ في الإسلامِ سنّةً حسنةً فلهُ أجرُها وأجرُ من عمِلَ بها بعدَهُ من غيرِ أن ينقُصَ من أُجورِهم شىء، ومَنْ سنَّ في الإسلامِ سنّة سيئةً كان عليهِ وزرُها ووزرُ مَن عمِل بها من بعدِه من غيرِ أن ينقُصَ من أوزارِهم شىء” وقد ذكَرَ الحافظُ السخاويُّ في فتاويهِ أن عمَلَ المولدِ حدَثَ بعد القرونِ الثلاثةِ ثم لا زالَ أهلُ الإسلامِ من سائر الأقطار في المدنِ الكبارِ يعملونَ المولدَ ويتصدَّقون في لياليهِ بأنواعِ الصَّدقاتِ. ويعتنون بقراءةِ مولدِه الكريم ويظهرُ عليهم من بركاتِه كلُّ فضل عميم.
وذكر العلامة شهاب الدين أحمدُ المقريّ في كتابه “نفح الطيب” أن السلطان أبا حمو موسى صاحب تلمسان في القرن الثامن الهجري كان يحتفلُ ليلة مولد رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم غايةَ الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله، وذكر الحافظ أبو عبد الله التّنَّسيّ أنه كان يقيم ليلة المولدِ النبوي اجتماعًا يجتمع إليه الناس خاصّة وعامة، وللحافظ السيوطي رسالة سماها “حسنَ المقصدِ في عملِ المولد”، قال:
“قد وقع السؤالُ عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمُه من حيث الشرعُ وهل هو محمود أم مذموم؟ فالجوابُ عندي أن أصلَ عملِ المولد الذي هو اجتماعُ الناس وقراءةُ ما تيسَّر من القرءانِ وروايةُ الأخبارِ الواردة في مبدإِ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقعَ في مولده من الآياتِ ثم يُمدّ لهم سِماطٌ فيأكلونه وينصرفونَ من غير زيادةٍ على ذلك من البدع الحسنةِ التي يثابُ عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم، وأول من أحدث ذلك الفعلَ صاحبُ إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكَبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحدُ الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد. وكان له ءاثار حسنة، وهو الذي عمّر الجامع المظفريّ بسفح قاسيون”اهـ.
قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: “كان يعمل المولد الشريف (يعني الملك المظفر) في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه. قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب ابنُ دحيةَ مجلدًا في المولد النبوي سماه: التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو يحاصر الفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمودَ السيرة والسريرة”اهـ.
وقال ابن خلكان في كتابه “وفيات الأعيان” في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية: “من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشامَ والعراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظّم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل كتابَ “التنوير في مولد البشير النذير” وقرأه عليهِ بنفسه فأجازه بألف دينار”اهـ.
قال السيوطي: وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: “أصلُ عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحدٍ من السلفِ الصالحِ من القرون الثلاثة ولكن مع ذلك اشتملت على محاسنَ وضدها، من جرد في عمله المحاسن وتجنبَ ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا، وقد ظهر لي تخريجُها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فوجد اليهود يصومون يومَ عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرقَ اللهُ فيه فرعونَ ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: “نحنُ أولى بموسى منكم” فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معيّن من إسداء نعمةٍ أو دفع نقمةٍ ويُعادُ ذلك في نظير ذلك اليوم من كلّ سنة، والشكرُ لله يحصلُ بأنواعِ العبادةِ كالسجودِ والصيامِ والصدقةِ والتلاوة، وأيُّ نعمةٍ أعظمُ من بروزَ هذا النبيّ نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا ينبغي أن يتحرّى اليوم بعينه حتى يُطابق قصَّة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قومٌ فنقلوه إلى أي يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما تعلق بأصل عمله وما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكرَ لله تعالى من نحو ما تقدّم ذكرهُ من التلاوة والإطعام وإنشاد شىء من المدائح النبوية الزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة”.اهـ.
ثم ليعلم المطالعون لهذا المولد وغيره أن أغلب الأحاديث المتعلقة بقصة المولد ليست صحيحة الأسانيد إذ لا يصحّ منها إلا القليل وما سواه ضعيف، وقد قال العلماء يجوز رواية الحديث الضعيف في الفضائل وقالوا يعمل به إلا في العقائد والأحكام.
وهناك كتب ألفت في المولد فيها الكذب الصريح المفترى منها كتاب نسب إلى ابن حجر وليس له، وكتاب نسب إلى ابن الجوزي وليس له وهو المسمى “مولد العروس” فيجب اجتناب هذين وما أشبههما. والله سبحانه وتعالى أعلم.