…لو أنهم عرفوك
عاش المائة كلها… أقل قليلًا أو أكثر قليلًا…
يعرف منها التعب والهم بالتحمل والصبر…
يعرف بها البكاء الكثير… والفرح القليل … بخوف الله تعالى وبطاعته..
غريبًا عنها… الآخرة أمّه والدنيا ضَرّتُها…
لم يحب اللعب منذ صغره… ولا اللهو في كِبَره…
أحب مكابدة الجوع والعطش في صيام الهواجر والسهر في قيام الليل…
ووافق نور النهار بضياء العلم ينشره في ظلمات الجهل فيمحوها رويدًا رويدًا، حتى تبلجت شمس مَعارفه على الناس فتبينوا الهدى واجتنبوا الردى، ومشَوا بما علّم وفهّم على صراط مستقيم ودليل قويم وبيان صريح… فوجدوا عنده بغية الطالب ونشدوا العروج على مختصر سلم التوفيق… فارتقوا بالتعقب الحثيث لخطاه… ونال كل من العلم مبتغاه…
فكان درب السلوك على هداه عمدة الراغب إلى المطالب الوفية… بما منّ الله عليه…
ولست أدري كيف يشبَّه بالجبال من كان يحمل الجبال من الرجال بشؤونهم وشجونهم وأحمالهم وأثقالهم… هم وما يتحملون بين يديه ورعاية عينيه… وجود كفيه وهو الذي كلما انفتحت له الدنيا أعطاها ولم يأخذ… وكلما وسعت له ضيّق عليها… وكلما بسمت له بإقبال… عبس في إدبار…
أعطى العمر… لينال الأجر… وأنفق الأوقات كأكرم ما ينفق أحد في سبيل نيل الحسنات…
هو الرجل الذي لم تزلزله النوائب والخطوب…
وهو العالم الذي نشر الخير في طباق الأرض…
وهو الولي العارف… الذي ربَّى وهذَّب النفوس والقلوب…
وهو الأخ الذي يحنو على أخيه… والأب الذي يعطف على بنيه… والصديق الذي لا يتخلى عمن يصادقه ويصافيه…
وهو العبد… الذي أحنى صلبه… حتى يُرضي ربه…
للّه ذله وخضوعه وخشوعه… للّه قيامه وسجوده وركوعه…
إذا رأيته ذكرت الله… وإذا سمعته… ذكرت الله…
وإذا اتبعته… عرفت حق الله… وتعلقت بحب الله…
هذا هو الذي أمسك بأيدينا في ظلمة داجية…. حتى أدّانا إلى الفرقة الناجية…
الذي فرح إذا أطعنا حتى ليقول الرائي لاستهلال البِشر في وجهه: إنه يحبنا أكثر مما نحب أنفسنا…
والذي حزن إذا عصينا حتى يقول رائيه: إنه يخاف علينا أكثر مما نخاف على أنفسنا…
وها نحن… الذين أبكيناه أكثر مما أضحكناه…
وأتعبناه أكثر مما أرحناه… واهتممنا لشأننا ولدنيانا ولمشاغلنا حتى سألناه عما يعني وعما لا يعني…
وكلما زدناه أحمالًا زادنا صبرًا وأفاد…
وكلما زدناه آلامًا زرع فينا بحلمه آمالًا…
نحن الذين فتح لنا أبواب السعادة… فتباطأت منَّا الأقدام… وتلكأت منا الهمم… وتقاعست العزائم…
نحن الذين أحببناه ذاك الحب… ولم نعامله كما ينبغي لمقامه وجلالة قدره…
حافظ علينا… ولولاه كان الضياع…
بغربته عن الدنيا… وغربته عن وطن وأهل وعشيرة… حضن غربتنا فأبدلنا من الوحشة أُنسًا ومن الخوف أَمنًا… ومن الهموم طمأنينة… بإرشادنا وتربيتنا على دين الله الحنيف…
تأثرناه -أي تبعناه-… فما دانيناه…
والتفت إلينا ينزع عنَّا شوك الدنيا ويغسلنا من درنها وينتشلنا من الغرق في التنعم بها… وهو الذي لم يلتفت لها حين نادته…
ولم يستكن إليها حين أغرته… عرف حقيقتها… وقال: اعرفوا… فمن عرف فهو معه… ومن لم يعرف فهو مجرد قائل إنه على الطريقة… وقد يموت ولا يدرك الحقيقة…
الله أكبر… الله أكبر… مَن هذا الرجل؟! كأنه بقية من سلف الأمة الصالح… كيف صار إلى عصرنا… وعاش في ما بيننا…
حتى أكرمنا الله بأن نشهده ونجلس بين يديه… ونرى ونسمع كيف الزهد على الصفاء وكيف الفقه على النقاء وكيف عز الإسلام في أئمة الإسلام وعلمائه…
عظيمٌ فضلك علينا يا رب… كريمٌ يا الله… أن جعلتنا ممن شهده وشهد له وعامله وعاشره وتعلم منه وتتلمذ عليه…
أرشدنا حيًّا… وأوصانا لنبقى كما يحب على الحق… على الشرع… على المحجة البيضاء… كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ثم استراح من الدنيا وهمومها وأفاعيها وسمومها…
له صحائف نحسبها ريّا بالرضوان… ونِعَمٌ نرجوها له في عُليا الجِنان… ونسأل الله له خير الجزاء والإحسان… كما أحسن إلينا… هذا هو…
عبدُ الله…
رحلاته وتدريسه
لم يكتفِ بعلماء بلدته وما جاورها بل جال في أنحاء الحبشة والصومال لطلب العلم وسماعه من أهله وللتعليم أيضًا وله في ذلك رحلات عديدة لاقى فيها المشاق والمصاعب، غير أنه كان لا يأبه لها بل كلما سمع بعالم شد رحاله إليه ليستفيد منه وهذه عادة السلف الصالح، وساعده ذكاؤه وحافظته رحمه الله على التعمق في الفقه الشافعي وأصوله ومعرفة وجوه الخلاف فيه، وكذا الشأن في الفقه المالكي والحنفي والحنبلي حتى صار يشار إليه بالبنان ويقصد وتشد الرحال إليه من أقطار الحبشة والصومال حتى أسند إليه الفتوى ببلده هرر وما جاورها. وكان في فترة شبابه يتنقل ويدور على القرى والأرياف ماشيًا ليعلّم الناس التوحيد والأحكام فكان يغيب سنة فتظن والدته أنه مات لطول غيابه وتبكي عليه ثم يأتي بعد ذلك. وإنه رضي الله عنه لما عرف عداوة الملك له خاف أن يلحق الضرر بالبلد وكان قد كثر تقتيل العلماء وذلك حوالي سنة 1369هـ – 1949 ر فذهب إلى مكة المكرمة وحج، فتعرف إلى عدد من علمائها كالشيخ العالم السيد علوي المالكي. ثم رحل بعدها إلى المدينة المنورة واتصل بعدد من علمائها، واجتمع بالشيخ المحدث إبراهيم الختني تلميذ المحدث عبد القادر شلبي وحصلت بينهما صداقة ومودة، فبقي في المدينة مجاورًا مدة من الزمن. ثم رحل إلى بيت المقدس سنة 1370هـ- 1950ر ومنه توجه إلى دمشق فاستقبله أهلها بالترحاب لا سيما بعد وفاة محدثها الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، ثم سكن في جامع القطاط في محلة القيمرية وأخذ صيته في الانتشار فتردد عليه مشايخ الشام وطلبتُها. وتعرَّف إلى علمائها واستفادوا منه وشهدوا له بالفضل وأقروا بعلمه واشتهر في الديار الشامية بخليفة الشيخ بدر الدين الحسني، وبمحدث الديار الشامية، ثم تنقل في بلاد الشام بين دمشق وبيروت وحمص وحماه وحلب وغيرها من المدن السورية واللبنانية إلى أن استقر آخرًا في بيروت.
مشايخه
أخذ في هرر عن والده محمد بن يوسف، وعن الشيخ العالم علي شريف القرءان الكريم حفظًا وتجويدًا وترتيلًا وعلم التوحيد، وعن العالم النحرير الشيخ الولي محمد بن عبد السلام الهرري الفقه الشافعي والنحو، وقرأ على الشيخ إبراهيم بن أبي الغيث الهرري كتاب «عمدة السالك وعدة الناسك» لأحمد ابن النقيب الشافعي، وعلى الشيخ الصالح أحمد الضرير الملقب بالبصير، النحوَ والصرف والبلاغة، وأخذ عن الشيخ بشرى كَاروكي علم العروض والقوافي، وغيرهم كثير ممن يعسر حصره هنا. أما في المدينة المنورة فاجتمع بالشيخ المحدث محمد علي أعظم الصديقي البكري الهندي الأصل ثم المدني الحنفي. وقرأ في بلاد الشام على الشيخ المقرئ محمود فايز الدير عطاني نزيل دمشق، وقرأ على الشيخ محمد العربي العزوزي الفاسي نزيل بيروت الموطأ وسمع منه بعضًا من مسند أحمد والمسلسل بالأولية وأجازه.
وفاته
اشتد عليه المرض رضي الله عنه فألزمه الفراش بضعة أشهر حتى توفاه الله تعالى فجر يوم الثلاثاء في الثاني من شهر رمضان سنة 1429 هـ الموافق للثاني من شهر أيلول سنة 2008ر, ودفن في بيروت ومقامه معروف يقصد.
رحمه الله تعالى وأمدَّنا بأمداده، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن جعلنا من تلاميذه، فقد علّمنا نهج الأنبياء وطريق الأولياء والصالحين، وأنقذنا من الفساد والظلام، ونوّرنا بعلمه وأدّبنا بأفعاله، فنهجه وإن رحل عنا بجسده في قلوبنا يحيا، نعمل بما علّمنا إن شاء الله وبما أوصانا به من نشر عقيدة أهل السنة والجماعة، جمعنا الله تعالى به وبالنبيّ الكريم ﷺ في الجنّة، آمين.