Next prayer

See more
عربيةمناسبات إسلاميّة

الإسراء والمعراج

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المعز المذل، ونعوذ به من أن نَضل أو نُضل، أو نَزل أو نُزل، هو نعم المولى ونِعم النصير، وعليه تُكلاننا وإليهِ المصير، وله الإثابَةُ، وإليهِ الإنابة، وإيّاه ندعو فنسأله الإجابة، سبحانه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، والصلاةُ والسلامُ على شمس الهدى الباهرِ أيَّما بَهر، المنصور قبلَ سل وشهر، بالرعب من مسيرة شهر، نبينا الذي صدق وصدع بالحقّ وجهر، فحصَّ جناح الشرك إذا حصحصَ وبهر، وأظهره الله فظهر، وعلى ءاله الذائدين عن حِياض الشرع، وكيف لا والأصلُ يتبع الفرع، وصحبهِ كُماة الجهاد، حماةِ الوهاد، من استمسكوا فاقتفوا هدْيَ هاد.

أما بعد، فقد قال الله تبارك وتعالى :{سبحانَ الذي أسرى بعبدِه ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حولَه لنريه من ءاياتِنا إنه هوَ السميعُ البصير} (سورة الإسراء/1).

السبْحُ في اللغةِ معناهُ التباعدُ، ومعنى “سبحان الله” تنزّه اللهُ عن مشابهةِ الخلق بأيّ وجه من الوجوه. والإسراءُ هو السيرُ بالليل، فالإسراءُ والمعراجُ حصلا في جزء من ليلة واحدة، والمسجد الحرام سمي بذلك لحرمتِه وللأحكام الخاصة به منها: مضاعفة أجر الصلاة فيه أضعافًا كثيرة، ووجوده في مكة أفضل بقاع الأرض، وتحريم صيد البَر في الحرم. والمسجدُ الأقصى سمي بذلك لبعده عن المسجد الحرام، وكلاهما بناهما سيدنا ءادم عليه السلام، بنى الكعبة ثم بعد أربعين سنة بنى المسجد الأقصى، وسماه الله مسجدًا مما يدلّ على أنّه كان عمل كسائر أماكن عبادة المسلمين أتباع كلّ الأنبياءِ لعبادة اللهِ الواحد بالصلاةِ التي يسجدُ فيها المسلمُ لله. وقوله تعالى :{باركنا حوله} معناه أن أرض الشام أرض مباركة، فقد ثبت في الصحيح صحيح البخاريّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :”اللهمّ بارك لنا في شامنا ويمننا” قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال :”هناك الزلازل والفتن هناك يطلع قرن الشيطان“. فأرض الشام مباركة وفلسطين التي فيها المسجد الأقصى من الشام.

والله تبارك وتعالى بعث الأنبياء رحمةً للعباد، إذ ليسَ في العقل ما يُستغنى به عنهم، لأن العقلَ لا يستقِلّ بمعرفةِ الأشياء المنجية في الآخرة، فالله تعالى متفضّلٌ بها على عباده. وقد أيّد الله تبارك وتعالى الأنبياء بمعجزات لتكون دليلاً على صدقهم. والمعجزةُ أمر خارقٌ للعادة يظهرُ على يد مدّعي النبوة، موافق للدعوة، سالمٌ من المعارضة بالمثل، وكان صلى الله عليه وسلم أعظمَ الأنبياء معجزات فقد نقل ابن أبي حاتم في كتاب مناقب الشافعيّ عن أبيهِ عن عمرَ بنِ سواد عن الشافعي قال :”ما أعطى الله شيئًا ما أعطى محمدًا فقلتُ أعطى عيسى إحياءَ الموتى قال: أعطي محمدٌ حنينَ الجذعِ حتى سُمِع صوتُه فهذا أكبرُ من ذلك“.

وقد قال بعضُ الماحدين:

إنْ كان موسى سقى الأسباطَ من حجَرٍ * فإنَّ في الكفّ معنًى ليس في الحجَرِ

إن كان عيسى برا الأعمى بدعوتِه * فكمْ براحتِه قد ردَّ من بصَرِ

 

ومن جملة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الإسراءُ والمعراجُ.

 

الإسراءُ

معجزةُ الإسراءِ ثابتة بنصّ القرءانِ والحديث الصحيح، فيجبُ الإيمان بأن الله أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من مكة المكرمةِ إلى المسجد الأقصى. وقد أجمَع أهل الحقّ من سلف وخلف ومحدثين ومتكلمين ومفسرين وفقهاء على أن الإسراء كان بالجسد والروح وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو قولُ ابن عباس وجابر وأنس وعمر وحذيفة وغيرهم من الصحابة وقول الإمام أحمد وغيره من الأئمة وقول الطبري وغيره. فلا خلاف إذًا في الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ فيه نصّ قرءانيّ، فلذلك قال العلماء :”إنّ من أنكر الإسراءَ فقد كذّب القرءان ومن كذّب القرءانَ فقد كفَر“.

وروى البيهقي عن شداد بن أوس قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: “صليتُ لأصحابي صلاةَ العتمة بمكةَ مُعتِمًا، وأتاني جبريلُ عليهِ السلامُ بدابّةٍ بيضاءَ فوقَ الحمارِ ودونَ البغلِ، فقال: اركبْ فاستصعبتْ عليَّ (أي من الدلال)، فدارَها بأُذُنها ثم حملني عليها، فانطلقَتْ تهوي بنا يقعُ حافرُها حيث أدركَ طرْفُها حتى بلغنا أرضًا ذات نخلٍ فأنزلني فقال: صلّ، فصليتُ، ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليتَ؟ قلتُ: اللهُ أعلمُ قال: صليتَ بيثربَ، صليتَ بطيبةَ، فانطلقت تهوي بنا يقعُ حافرُها حيث أدركَ طرفُها، ثم بلغنا أرضًا فقال: انزِل فنزلتُ ثم قال: صلّ. فصليتُ ثم ركبنا فقال: أتدري أينَ صليتَ؟ صليتَ بطورِ سيناءَ حيث كلَّم الله عز وجلَّ موسى عليهِ السلامُ، ثم انطلقتْ تهوي بنا يقعُ حافرُها حيث أدركَ طرْفُها، ثم بلغنا أرضًا بدت لنا قصورٌ، فقال: انزِل، فنزلتُ فقال: صلّ. فصليتُ ثم ركبنا قال: أتدري أينَ صليتَ. قلتُ: الله أعلمُ، قال: صليتَ ببيتِ لحمٍ حيثُ وُلِد عيسى عليه السلام المسيحُ ابنُ مريم، ثم انطلقَ بي حتى دخلنا المدينةَ من بابِها اليمانيّ فأتى قِبلةَ المسجِد فربَطَ بهِ دابتَهُ ودخلنا المسجد من بابِ فيهِ تميلُ الشمسُ والقمرُ فصليتُ من المسجد حيثُ شاء اللهُ”.

وكان قد شُقَّ صدرُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسرى به ليلاً من بيتِ أمّ هانىء من مكة المكرمة من المسجد الحرام.

قال أنس بنُ مالك كان أبو ذرٍ يحدّث أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال :”فُرِج سقفُ بيتي وأنا بمكة فنزلَ جبريلُ ففرجَ صدري ثم غسَلَه من ماء زمزم ثمّ جاءَ بطَستٍ من ذهب ممتلىء حكمةً وإيمانًا فأفرغَها في صدري ثم أطبقَه“. رواه مسلم.

وقد جمع الله عز وجل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في بيت المقدس من ءادم فمن بعدَه فصلى بهم إمامًا. وهذا دليل على أن الأنبياء لهم تصرّف بإذن الله بعد موتهم وينفعون من شاء اللهُ أن ينتفعَ منهم، فهم ليسوا كالناس العاديين، فقد روى البزار والبيهقي وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :”الأنبياءُ أحياءٌ في قبورهم يصلون”.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج :”ثُمّ دخلتُ بيتَ المقدسِ فجُمِع ليَ الأنبياءُ عليهمُ السلامُ فقدَّمني جبريلُ حتى أممتُهم ثم صُعِد بيَ إلى السماءِ” رواه النسائي.

 

من عجائب ما رأى الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ في الإسراءِ:

1. الدنيا: رأى وهو في طريقه إلى بيت المقدس الدنيا بصورة عجوز.

2. إبليس: رأى شيئًا متنحّيًا عن الطريق يدعوه وهو إبليس، وكان من الجن المؤمنين في أول أمره، ثم كفر لاعتراضه على الله. قال الله تعالى :{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليسَ كان من الجنّ ففسقَ عن أمر ربّه} (سورة الكهف/50).

ولا يجوز أن يقال إن إبليس كان طاووس الملائكة فهو لم يكن ملَكًا. والدليل على ذلك أن الله تعالى قال :{إلاَّ إبليس كان من الجنّ} والرسول صلى الله عليه وسلم قال :”خُلقت الملائكةُ من نور وخُلق الجان من مارج من نار“، فتبين أن إبليس من الجن حقيقة بدليل ما تقدم.

3. ماشطةُ بنتِ فرعون: ثم شمّ رائحةً طيبة من قبر ماشطة (التي تمشط الشعر) بنتِ فرعون وكانت مؤمنة صالحة وجاءَ في قصتها أنها بينما كانت تمشُط رأس بنت فرعون سقَط المشط من يدها فقالت بسم الله، فسألتها بنتُ فرعون أوَ لَكِ ربّ إلهٌ غيرُ أبي؟ فقالت الماشطةُ: ربي وربُّ أبيكِ هو الله، فأخبرت أباها فطلب منها الرجوع عن دينها فأبت فحمَّى لها ماءً فألقى فيه أولادها ثم كلمها طفلٌ لها رضيع قبل أن يرميَه :”يا أمَّاه اصبري فإنّ عذابَ الآخرةِ أشدُّ من عذاب الدنيا فلا تتقاعسي فإنَّك على حقّ” فقالت لفرعون:”لي عندك طلب، أن تجمع العظام وتدفنَها” فقال :”لكِ ذلك” فألقاها فيه. وقد ماتت شهيدةً هي وأولادُها.

4. المجاهدون في سبيل الله: رأى قومًا يزرعون ويحصدون في يومين، فقال له جبريل: هؤلاءِ المجاهدون في سبيل الله. والجهادُ في سبيل الله نوعان: جهادٌ بالسنان أي بالسلاح، وجهادٌ في سبيل الله بالبيان، وثوابُ هذا كثوابِ من جاهدَ بالسلاح، فاليوم من أمَر بالمعروف ونهى عن المنكر بجِدّ فهو مجاهد في سبيل الله، والمجاهدون لهم درجة عالية في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”من أحيا سنتي عند فساد أمّتي فله أجرُ شهيد” والمقصود بالسنّة هنا الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5. خطباء الفتنة: رأى أناسًا تُقرضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريضَ من نار، قال له جبريل: هؤلاءِ خطباء الفتنة، يعني الذين يَخطبون للشرّ والفتنة، أي يدعون الناس إلى الضلال والفساد والغش والخيانة.

6. الذي يتكلم بالكلمة الفاسدة: ورأى ثورًا يخرجُ من منفذٍ ضيّقٍ ثم يريدُ أن يعودَ فلا يستطيعُ أن يعودَ إلى هذا المنفذ، فقال له جبريل: هذا الذي يتكلمُ بالكلمة الفاسدة التي فيها ضرر على الناس وفتنة، ثم يريد أن يردَّها فلا يستطيع.

7. الذين لا يؤدون الزكاة: ورأى أناسًا يسرحون كالأنعام على عوراتهم رقاع (سُتَر صغيرة) قال له جبريل: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة.

8. تاركو الصلاة: ورأى قومًا ترضخُ (أي تكسر) رءوسُهم ثم تعودُ كما كانت فقال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقلُ رءوسُهم عن تأديةِ الصلاةِ.

9. الزناة: ورأى قومًا يتنافسون على اللحمِ المنتنِ ويتركونَ اللحم الجيدَ المُشرَّح فقال جبريل: هؤلاءِ أناس من أمّتك يتركون الحلال فلا يطْعمونه ويأتون الحرام الخبيث فيأكلونه وهُم الزناة.

10. شاربو الخمر: رأى أناسًا يشربون من الصديد الخارجِ من الزناة، قال له جبريل: هؤلاء شاربو الخمر المحرم في الدنيا.

11. الذين يمشون بالغيبة: رأى قومًا يخمشون وجوهَهم وصدورهم بأظفار نُحاسية، قال له جبريل: هؤلاء الذين كانوا يغتابون الناسَ.

والغيبةُ من أشدّ أسباب عذاب القبر هي والنميمة وترك الاستنزاه من البول. وغيبة الأتقياء من الكبائر، ثم الغيبة لا تفسد الصوم قال الإمام أحمد: لو كانت الغيبة تفسد الصوم لما صحّ لنا صوم.

 

المعراجُ

المعراجُ ثابتٌ بنصّ الأحاديث الصحيحة، وأمّا القرءانُ فلم ينصّ عليه نصًّا صريحًا، لكن وردَ فيه ما يكادُ يكونُ نصًّا صريحًا.

قال الله تعالى :{ولقد رءاهُ نزلةً أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنّة المأوى} (سورة النجم/13-14-15)، فإن قيل: قولُه {ولقد رءاه} يحتمل أن يكون رؤيةً مناميّة. قلنا: هذا تأويل، ولا يَسوغُ تأويل النصّ أي إخراجُهُ عن ظاهرهِ لغير دليلٍ عقليّ قاطع أو سَمعي ثابت كما قاله الرازيُّ في المحصول، وليسَ هنا دليلٌ على ذلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الإسراء والمعراج:

:”ثم عَرَجَ بنا إلى السماءِ فاستفتَحَ جبريلُ فقيل: مَنْ أنت؟ قال: جبريلُ. قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ. قيل: وقد بُعث إليهِ (معنى وقد بعث إليهِ: هل طُلب للعروجِ وليس معناه أن الملائكةَ يسألونَ هل نزل عليه الوحيُ أم لا، لأن الملائكةَ يعلمون أن محمدًا خاتم الأنبياء، وكانوا يعلمون أنه قد نزل عليه الوحي، ومعنى حديث :”كنتُ نبيًّا وءادم بين الروح والجسد

أي شُهرت بالوصف بالنبوة والرسالة قبل أن يركب روح ءادم في جسده وليس معناه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خلق قبل ءادم فالرسول يقول :”نحنُ الآخرون السابقون” ومعناهُ نحن الآخرون وجودًا السابقون دخولاً الجنة)؟ قال: قد بُعث إليهِ. ففُتح لنا فإذا أنا بآدم فرحّبَ بي ودعا لي بخير. ثُمّ عَرَجَ بِنا إلى السماءِ الثانية، فاستفتحَ جبريلُ عليه السلام فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليهِ؟ قال: قد بعث إليهِ. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريمَ ويحيى بنِ زكرياءَ صلوات الله عليهما فرحّبا ودعوا لي بخير.

ثم عرَجَ بي إلى السماء الثالثة فاستفتحَ جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليهِ. ففُتح لنا فإذا أنا بيوسفَ صلى الله عليه وسلم إذْ هو قد أعطي شطر الحسن. فرحَّب ودعا لي بخير.

ثم عرجَ بنا إلى السماءِ الرابعةِ فاستفتحَ جبريلُ عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففُتح لنا فإذا أنا بإدريسَ فرحب ودعا لي بخيرٍ.

قال الله عز وجل :{ورفعناهُ مكانًا عليًّا}. ثم عرَجَ بنا إلى السماءِ الخامسةِ فاستفتح جبريلُ. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليهِ؟ قال: قد بُعث إليه. ففُتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحَّب ودعا لي بخير.

ثم عرجَ بنا إلى السماءِ السادسةِ فاستفتحَ جبريلُ عليه السلامُ قيل: من هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففُتح لنا فإذا أمامي موسى صلى الله عليه وسلم فرحَّب ودعا لي بخير.

ثمَّ عرَجَ بنا إلى السماءِ السابعةِ فاستفتح جبريلُ فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه. ففُتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخلُهُ كلَّ يومٍ سبعون ألف ملَكٍ لا يعودون إليهِ، ثم ذهبَ بي إلى سدرةِ المنتهى وإذا ورقُها كآذانِ الفيلةِ، وإذا ثمرُها كالقلالِ (جمع قُلة وهي الجرة العظيمة). قال: فلما غشيها من أمر اللهِ ما غشيَ تغيَّرت فما أحدٌ من خلق الله يستطيعُ أن ينعتها من حُسنها فأوحى الله إليَّ ما أوحى ففرضَ عليَّ خمسينَ صلاةً في كلّ يومٍ وليلةٍ فنزلتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرضَ ربُّك على أمّتِك؟ قلتُ: خمسينَ صلاةً، قال: ارجِع إلى ربّك (هذا ليس معناهُ أنه في مكان يسكنه الله إنما معناه ارجع إلى المكان الذي تتلقى فيه الوحيَ من ربك. فالله موجود بلا مكان) فاسألهُ التخفيفَ فإنَّ أمتَكَ لا يُطيقون ذلك فإني قد بلوتُ بني إسرائيل وخبرتُهم. قال: فرجعتُ إلى ربي فقلت: يا ربّ خفّف على أمتي.

فحطَّ عني خمسًا فرجعتُ إلى موسى فقلتُ حطَّ عني خمسًا. قال: إنَّ أمّتك لا يُطيقونَ ذلك فارجعَ إلى ربّك فاسأله التخفيفَ قال: فلم أزلْ أرجِع بين ربي تبارك وتعالى (أي المكان الذي كنت أتلقى فيه الوحي من ربي) وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد إنهمّ خمسُ صلوات كلّ يومٍ وليلة لكلّ صلاةٍ عشرٌ، فذلك خمسون صلاةً. ومن همَّ (الهم أمر دون العزم ودون الفعل) بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كتبتْ له عشرًا، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها لم تكتبْ شيئًا، فإن عملها كُتبت سيئًة واحدةً قال: فنزلتْ حتى انتهيتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه فقال ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيفَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلتُ: قد رجعتُ إلى ربي حتى استحييتُ منهُ” رواهُ مسلم.

وفي هذا الحديث دليل لأهل الحق أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية على أن النبيَّ والوليَّ له تصرّف بعد وفاته وينفع بإذن الله، أليس سيدنا موسى عليه السلام نفعَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم نفعًا عظيمًا بهذا الذي حصل ليلة المعراج حين أشار على الرسول أن يطلب من ربه التخفيف في عدد الصلوات؟ وهذا رد على الوهابية مشبهة العصر النافين النفعَ عمن مات، بل ويعتبرون من توسل بالأنبياء والأولياء مشركًا والعياذ بالله.

 

فائدة جليلة:

يجدرُ بنا هنا أن نذكر أن الله تعالى هو خالقُ السموات السبع وخالقُ الأماكن كلها، وأن الله كان موجودًا قبل خلقِ الأماكن بلا هذه الأماكن كلها. فلا يجوز أن يُعتقدَ أن الله تعالى موجودٌ في مكان أو في كل الأمكنة، أو أنّه موجود في السماء بذاته، أو متمكن على العرش، أو حالّ في الفضاء، أو أنه قريب منا أو بعيد عنا بالمسافة. تعالى الله وتنزّه عن ذلك ويكفُر من يعتقد ذلك.

قال الإمام علي رضي الله عنه :”كان اللهُ ولا مكان وهُو الآن على ما عليه كان“. رواه أبو منصور البغدادي. ولا يجوز أن يُعتقد أن الله موجود في جِهة من الجهات. قال الإمامُ أبو جعفر الطحاويُّ السلفيّ في عقيدتِه المسماةِ العقيدةَ الطحاويةَ :”ولا تحويهِ الجهاتُ الستُّ كسائرِ المبتدعات” والجهاتُ الستُّ هي فوق وتحتُ ويمين وشمال وأمام وخلف. أما اعتقادُ بعضِ الضالين أن الرسول وصل إلى مكان هو مركزٌ للهِ تعالى فهذا ضلالٌ مبين لأن الله موجود بلا مكان، ولا عبرةَ بما هو مكتوبٌ في بعضِ الكتبِ الفاسدةِ الكثيرةِ الانتشار والذائعةِ الصيت التي فيها ما ينافي تنزيهَ اللهِ عن المكانِ والتي يتداولها بعضُ العوام، والتحذيرُ منها واجبٌ، ومنها الكتاب الذي عنوانه كتاب المعراج المنسوب كذبًا للإمام ابنِ عباسٍ فيجب التحذير منه ومن أمثاله.

فالعرشُ المجيدُ لا مناسبةَ بينَه وبين الله عزّ وجلَّ إنما خلقه اللهُ تعالى ليكونَ كالكعبةِ بالنسبةِ للملائكةِ الحافينَ حولَه وهم أكثر من كلّ الملائكةِ بل أكثر من عدد حباتِ المطرِ وأكثر من عدد حبات الرمال هؤلاءِ يطوفون حول العرش ويتوجهون إليهِ كما أننا نحن المؤمنين من أهل الأرض نتوجه إلى الكعبة في صلاتنا ونطوف حولها ونعظّمها ولا مناسبة بين الكعبةِ وبين الله عز وجلّ كما أنّه لا مناسبةَ بين الله وبين العرش، وما أقبحَ قول الوهابية إن جهةَ فوق تليق بالله لأنها جهة يتشرفُ بها الله حيث جعل هؤلاء المشبهةُ اللهَ عز وجلَّ متشرفًا بشىء من خلقه، إذ الجهات كلها من خلق الله تعالى، والله تعالى كان موجودًا قبل الجهات وقبل كل شىء فكيف يكون متشرفًا بشىء من خلقه. سبحانك هذا بهتان عظيم.

 

ما المقصود من المعراج:

المقصودُ من المعراجِ تشريفُ الرسول بإطلاعه على عجائب العالم العلوي، وتعظيمُ مكانتِه.

من عجائب ما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج:

1. مالك خازن النار: من جملة ما رءاهُ تلك الليلة مالكٌ خازن النار، ولم يضحك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل جبريلَ لماذا لم يرَهُ ضاحكًا إليه كغيره. فقال: إن مالكًا لم يضحك منذ خلقه الله تعالى، ولو ضحك لأحدٍ لضحك إليكَ.

2. البيت المعمور: ورأى في السماء السابعة البيتَ المعمور، وهو بيت مشرّف، وهو لأهل السماء كالكعبةِ لأهل الأرض، كلَّ يوم يدخله سبعون ألف ملَك يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبدًا. والملائكةُ أجسامٌ نورانيّة ذوو أجنحة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يعصون اللهَ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وعددُهم لا يحصيه إلا الله.

3. سدرة المنتهى: وهي شجرة عظيمة بها من الحُسن ما لا يصفه أحدٌ من خلق الله، يغشاها فَراشٌ (جمع فراشة وهي التي تطير وتتهافت في السراج) من ذهب، وأصلها في السماء السادسة، وتصل إلى السابعة، ورءاها الرسول صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة.

4. الجنة: وهي فوق السموات السبع منفصلة عنها فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطَر على قلبِ بشر مما أعدّه الله للمسلمين الأتقياء خاصةً، ولغيرهم ممن يدخل الجنةَ نعيمٌ يشتركون فيه معهم.

فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال أهل الجنة بعد دخولها قال :”ينادي منادٍ إنَّ لكُم أن تصِحوا فلا تسقموا أبدًا، وإنَّ لكُم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكُم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكُم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا.

فذلك قوله عز وجل :{ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} (سورة الأعراف/43)”. رواه مسلم.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة الحورَ العين فطلب منه سيدنا جبريلُ أن يسلّم عليهنّ بالقول فقلن له: نحن خيراتٌ حِسان، أزواجُ قومٍ كرام.

رأى فيها الوالدان المخلدين وهم خلق من خلق الله ليسوا من البشر ولا من الملائكة ولا من الجنّ، الله تعالى خلقهم من غير أمّ وأب كاللؤلؤ المنثور ليخدموا أهل الجنة، والواحدُ من أهل الجنة أقلّ ما يكونُ عنده من هؤلاء الولدان عشرة ءالافٍ بإحدى يديْ كل منهم صحيفة من ذهب وبالأخرى صحيفة من فضة.

5. العرشُ: ثم رأى العرشَ وهو أعظمُ المخلوقات، وحولَه ملائكةٌ لا يعلمُ عددَهم إلا الله. وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعةٌ من أعظم الملائكة، ويومَ القيامة يكونون ثمانية. وقد وصف الرسول أحدَهم بأن ما بين شحمة أذنِه إلى عاتقِه مسيرةُ سبعمائةِ عامٍ بخفقانِ الطيرِ المسرعِ، والكرسيُّ بالنسبة للعرشِ كحلقةٍ في أرض فلاة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”ما السمواتُ السبعُ في جنب الكرسيّ إلا كحَلقةٍ في أرضٍ فلاة، وفضلُ العرشِ على الكرسيّ كفضلِ الفلاةِ على الحلقةِ“.

والعرشُ أولُ المخلوقاتِ بعد الماء، ثم القلم الأعلى، ثم اللوح المحفوظ، ثم بعد أن كتبَ القلمُ على اللوحِ ما يكونُ إلى يوم القيامةِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، خلق الله السموات والأرضَ.

فلا يجوزُ أن يقال إن أول خلق الله نور محمد، أما حديث: أول ما خلق اللهُ نور نبيّك يا جابر، فهو حديث موضوع مكذوب مخالف للقرءانِ والحديث الصحيح والإجماع. وفيه ركاكة والركاكة من علامات الوضع عند علماءِ الحديث.

قال الإمام عليّ رضي الله عنه :”إنَّ اللهَ خلقَ العرشَ إظهارًا لقدرتِه ولم يتخذه مكانًا لذاتِه” رواه أبو منصور البغداديّ.

فيكفر من يعتقد أن الله تعالى جالس على العرشِ لأنّه عز وجل ليس كمثلِه شىء، ولأنّه سبحانه وتعالى موجودٌ بلا مكان.

وما أبشعَ فرية الوهابية الذين يقولون إن الله جالس على العرش ثم يقولون ولكن ليس كجلوسنا! فأين عقولهم كيف يجلس الله على شىء خلقه؟! ثم الجلوس كيفما كان هو من صفات الخلق إذ يحتاج لجالس ومجلوس عليه وكيف يحتاج الخالق لشىء من خلقه، ثم الجالس له نصف أعلى ونصف أسفل وهذا مركب والمركب مخلوق فيستحيل الجلوس على الله تعالى كيفما كان.

6. وصولُه صلى الله عليه وسلم إلى مستوًى يسمعُ فيه صريفَ الأقلام:

ثم انفرد رسول اللهِ عن جبريل بعد سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوًى يسمع فيه صريفَ الأقلامِ التي تنسَخُ بها الملائكةُ في صحفها من اللوح المحفوظ.

وأما ما يقال إن الرسول وصل وجبريل إلى مكان فقال جبريل: جُز فأنا إن اخترقتُ احترقت وأنت إن اخترقتَ وصلتَ فهذا ونحوه كذب وباطل.

7. سماعُه صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى الذاتيّ الأزليّ الأبديّ:

من المعلوم لدى أهل الحقّ أن كلام اللهِ الذي هو صفةُ ذاته قديمٌ أزليّ لا ابتداء له، ليس ككلامنا الذي يُبدأ ثم يُختتم، فكلامُه تعالى أزليٌّ ليس بصوتٍ ولا حرْفٍ ولا لغة. لأن اللغات والحروف والأصوات مخلوقة ولا يجوز على الله أن يتصف بصفة مخلوقة.

فلذلك نعتقدُ أن سيدنا محمدًا سمعَ كلام الله الذاتيَّ الأزليَّ بغير صوت ولا حرفٍ ولا حلول في الأذن.

ففي تلك الليلة المباركةِ أزال اللهُ عن أفضلِ خلقِه الحجابَ الذي يمنعُ من سماعِ كلام الله الأزليّ الأبديّ الذي ليس ككلام العالمين. وفهم الرسولُ منه الأوامرَ التي أمر بها والأمور التي بلّغها.

أسمعَهُ اللهُ بقدرتِه كلامَه في ذلك المكان الذي فوق سدرة المنتهى، لأنه مكان عبادة الملائكةِ لله تعالى، وهو مكانٌ لم يعصَ اللهُ فيه، وليس مكانًا ينتهي إليه وجود الله كما في بعض الكتب المزيّفة لأن الله موجودٌ بلا مكان.

ماذا فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام الله الذاتيّ:

فهمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام الله الذاتي فرضيةَ الصلوات الخمس. وفهم أيضًا أنه يُغفرَ لأمّتِه كبائرُ الذنوب لمن شاء الله له ذلك.

أما الكافر فلا يغفر له مهما كانت معاملتُه للناس حسنة، ولا يرحمه الله بعد الموتَ ولا يدخله الجنةَ أبدًا إن ماتَ على كفره. قال تعالى :{إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشآء} (سورة النساء/48).

وفهمَ أيضًا من كلام الله الأزليّ الأبديّ أنَّ من عمِل حسنةً واحدةً كُتبتْ له بعشرةِ أمثالها، ومن همَّ بسيئةٍ ولم يعملها كُتبتْ له حسنة، ومن همّ بسيئةٍ وعملها كُتبتْ عليه سيئة واحدة.

8. رؤيتُه صلى الله عليه وسلم لله عزَّ وجلَّ بفؤادِه لا بعينِه:

ومما أكرم اللهُ به نبيَّه في المعراجِ أنْ أزال عن قلبه صلى الله عليه وسلم الحجابَ المعنويَّ، فرأى الله بفؤاده، أي جعل اللهُ له قوةَ الرؤية في قلبه لا بعينه، لأن الله لا يُرى بالعينِ الفانية في الدنيا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”واعلموا أنَّكم لن تروا ربَّكُم حتى تموتوا“.

وإنما يُرى اللهُ في الآخرة بالعين الباقية، يراه المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسله، لا يشبه شيئًا من الأشياء، بلا مكان ولا جهة ولا مقابلة ولا ثبوت مسافة ولا اتصال شُعاع بين الرائي وبينه عز وجل.

يرى المؤمنون الله عز وجلَّ لا كما يُرى المخلوق.

فقد روى البخاريُّ وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :”أما إنكم ترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمرَ ليلةَ البدرِ لا تضامُّون في رؤيته“.

أي لا تشكون أن الذي تروْنَ هو الله كما لا تشكون في قمرِ ليلة البدر، ولا يعني أن بين الله تعالى وبين القمر مشابهةً.

قال تعالى :{وجوهٌ يومئذٍ ناضرة * إلى ربّها ناظرة} (سورة القيامة/22-23).

أما الكفار فلا يرونَ اللهَ في الدنيا ولا في الآخرة وهم مخلدون في نار جهنم. قال تعالى :{كلا إنهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون} (سورة المطففين/15).

والدليل على أن الرسول رأى ربه بفؤاده مرتين في المعراج ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى :{ما كذب الفؤاد ما رأى} {ولقد رءاه نزلة أخرى} قال: رءاه بفؤاده مرتين.

وبهذه المناسبة تجدرُ الإشارةُ إلى أنّه لم يحصل للنبيّ أن رأى ربَّه وكلمه في ءانٍ واحد بل كانت الرؤية في حال، وسماعُ كلامه في حال. قال الله تبارك وتعالى :{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسلَ رسولاً} (سورة الشورى/51).

9. رؤيته صلى الله عليه وسلم لسيدنا جبريل عليه السلام على هيئته الأصلية:

كان صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل عليه السلام في المرة الأولى في مكة على هيئته الأصلية، فغشي عليه، أما في هذه الليلة المباركة فقد رءاهُ للمرة الثانية على هيئته الأصلية فلم يُغش عليه إذ أنَّه ازداد تمكُّنًا وقوةً.

فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى :{ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} قالت: إنما ذاك جبريل كان يأتيه، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي هيأته الأصلية فسدَّ أفقَ السماء.

وليس معنى هاتين الآيتين :{ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} أن الله دنا من الرسول حتى قرُب منه بالمسافة قدر ذراعين أو أقل، والذي يعتقد هذا يضل ويكفر.

أما المعنى الصحيح فهو أن جبريل دنا من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {فتدلى} أي جبريلُ في دنوه من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {فكان قاب قوسين} أي ذراعين {أو أدنى} أي بل أقرب.

وهناك ظهر له بهيأته الأصلية وله ستمائة جناح، وكل جناح يسدُّ ما بين الأرض والسماء.

روى مسلمٌ عن الشَعْبِي عن مسروق قال: كنتُ متكئًا عند عائشةَ فقالت يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهنَّ فقد أعظم على اللهِ الفرية قلت: ما هنَّ؟ قالت: من زعمَ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال وكنت متكئًا فجلستُ فقلت: يا أمَّ المؤمنين أنْظِريني ولا تعجليني، ألم يقل اللهُ عز وجل :{ولقد رءاهُ بالأفقِ المبين} {ولقد رءاه نزلةً أخرى}.

فقالت: أنا أولُ هذه الأمةِ سأل عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال :”إنما هو جبريلُ لم أرَهُ على صورتِه التي خُلق عليها غيرَ هاتين المرتين، رأيتُهُ منهبِطًا من السماءِ سادًّا عِظَمُ خلقِهِ ما بين السماءِ والأرضِ” فقالت: أولم تسمعْ أن الله يقول {لا تُدركُهُ الأبصار وهُو يدرك الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير} أو لم تسمع أن الله يقول: {ما كان لبشرٍ أن يكلمَهُ اللهُ إلاَّ وحيًا أو من ورآءِ حجابٍ أو يرسلَ رسولاً فيُوحى بإذنِه ما يشآءُ إنَّه عليٌّ حكيم} (سورة الشورى/51).

قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتَم شيئًا من كتاب الله فقد أعظمَ على الله الفِرية، والله يقول: {يا أيها الرسولُ بلّغْ ما أنزل إليكَ من ربّك وإن لم تفعل فما بلغتَ رسالتَه} (سورة المائدة/67).

قالت: ومن زعمَ أنّه يُخبِرُ بما يكون في غد فقد أعظمَ على الله الفِرية. والله يقول {قل لا يعلمُ من في السموات والأرضِ الغيبَ إلا الله} (سورة النمل/65).

أي لا يعلم الغيب كلَّه إلا الله، وهذا فيه ردّ على القائلينَ أن الرسول يعلم كل ما يعلمه الله، وهؤلاء ساووا الرسول بالله عز وجل، والله تعالى لا يساويه أحد من خلقه في صفة من صفاته، فهو وحده العالِم بكل شىء والقادر على كل شىء لا يشاركه في ذلك ولا في سائر صفاته أحد من خلقه كائنًا من كان. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :”لا ترفعوني فوق منزلتي“.

ويقالُ إن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يأجوج ومأجوج (وهم كفار من البشر) وبلّغهم الدعوة، ففي البخاريّ أن الله يقول لآدم يوم القيامة :”أخرج بعثَ النار من ذريَّتك، فيخرُجُ من يأجوجَ ومأجوج حصة النار أكثر من كل البشر“. وكان ذو القرنين (وهو رجل ولي صالح) بنى عليهم سدًّا من حديد ونحاس أذابهما، فهم محجوزون خلف السد في هذه الأرض إلى ما شاء الله.

 

ماذا حصل بعد رجوع الرسول من المعراج:

قال بعض العلماء: كان ذهابه من مكة إلى المسجد الأقصى وعروجُه إلى أن عاد إلى مكة في نحو ثلث ليلة، أخبر أمَّ هانىء بذلك ثمّ أخبر الكفارَ أنّه أُسري به فلم يصدّقوه، واستهزءوا به فتجهَّز ناسٌ من قريش إلى أبي بكر فقالوا له: هل لك في صاحبك يزعُم أنه قد جاء بيتَ المقدس ثم رجعَ إلى مكة في ليلة واحدة، فقال أبو بكر: أوَ قالَ ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأشهدُ لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدقُه بأن يأتي الشامَ في ليلة واحدةٍ ثم يرجعَ إلى مكةَ قبل أن يُصبح؟ قال: نعم إني أصدقهُ بأبعدَ من ذلك أصدقُه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سُمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وطلب الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصفَ لهم المسجد الأقصى لأنهم يعلمون أنّه لم يرحل مع أهل بلده إلى هناك قطّ.

فجمعَ له أبو جهل قومَه فحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال قوم منهم ممن كان قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد: أما النعتُ فقد واللهِ أصابَ.

 

تنبيه:

على كل من اعتقد أن الله جسم أو أنه متحيّزٌ في مكان أو أنه دنا من الرسول بذاته أو أنه جالس على العرشِ الرجوعُ عن هذا والنطقُ بالشهادتين، لأنه يكون بذلك قد شبّه اللهَ بخلقه وكذب القرءان، قال تعالى :{ليس كمثله شىء وهو السَّميع البصير}. وقال أبو جعفر الطحاوي السلفي:”تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات”.

ومعنى “تعالى”: تنزه الله. “عن الحدود”: الحدّ هو الحجم، فالله لا يوصف بأنه حجم لا حجم كبير ولا حجم صغير.

“والغايات”: النهايات وهذا من صفات الأجسام والله منزه عنها.

“والأركان”: الجوانب وهذا أيضًا من صفات الخلق.

“والأعضاء”: الأجزاء الكبيرة كالرأس واليد الجارحة والرجل الجارحة فكل ذلك اللهُ منزَّه عنه.

“والأدوات”: الأجزاء الصغيرة كاللسان والأضراس والأسنان.

وهذا تنزيه صريح صرّح به إمام من أئمة السلف أئمة أهل السنة والجماعة الإمام أبو جعفر الطحاوي (الذي كان أدركَ جزءًا من القرن الرابع وعشرات من السنين من القرن الثالث الهجري) في عقيدته التي هي عقيدة أهل السنة أي الذين هم على ما عليه الرسول والجماعة أي الذين هم مع جمهور الأمة العاملون بحديث الرسول :”عليكُم بالجماعة وإياكُم والفُرقة” وبقوله :”فمن أرادَ بُحْبُوحة الجنة فليلزمِ الجماعةَ” ويكون من خالف ذلك شاذًّا ومن شذّ شذَّ في النار.

والحمد لله رب العالمين

Related Articles

Back to top button